يرى فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي أن إفتاء الناس بالأيسر والرخص ـ وبخاصة في هذه الأيام ـ أولى وليأخذ المفتي بالأحوط والعزيمة فيما يخصه هو حتى لا يكره الناس في الدين في هذا الزمان الذي كثرت فيه الفتن.

وهذا ما ذكره فضيلة الشيخ في كتابه الفتوى بين الانضباط والتسيب:
الأمر الأول: إن الشريعة مبنية على التيسير ورفع الحرج عن العباد، وهذا ما نطق به القرآن، وصرحت به السنة في مناسبات عديدة.

-ففي ختام آية الطهارة من سورة المائدة، وما ذكر فيها من تشريع التيمم، يقول الله سبحانه وتعالى: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج، ولكن يريد ليطهركم، وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون).

-وفي ختام آية الصيام من سورة البقرة، وما ذكر فيها من الترخيص للمريض والمسافر بالإفطار، يقول سبحانه وتعالى: (يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر).

-وفي ختام آيات المحرمات في الزواج، وما رخص الله فيه من نكاح الإماء المؤمنات لمن عجز عن زواج الحرائر، يقول جل شأنه: (يريد الله أن يخفف عنكم، وخلق الإنسان ضعيفا).

-وفي ختام سورة الحج، وما ذكر فيها من أحكام وأوامر، يقول عز وجل (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج) هذا إلى الآيات الأخرى التي حرمت الغلو في الدين، وأنكرت على من حرموا الطيبات، وهي كثيرة.

-والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا.
-ويقول صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين”.
-ويقول صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت بحنيفية سمحة”.

وينكر على المتطرفين والمغالين في العبادة أو في تحريم الطيبات، ويعلن أن من فعل ذلك فقد رغب عن سنته “ومن رغب عن سنتي فليس مني”.
ويوجه أصحاب هذه النزعة إلى التوسط والاعتدال، حتى لا يطغى حق على حق، ولهذا قال بعضهم: “إن لبدنك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولزوجك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه”.

والأمر الثاني: طبيعة عصرنا الذي نعيش فيه، وكيف طغت فيه المادية على الروحية، والأنانية على الغيرية، والنفعية على الأخلاق، وكيف كثرت فيه المغويات بالشر، والعوائق عن الخير، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، حيث تواجهه التيارات الكافرة عن يمين وشمال، ومن بين يديه ومن خلفه، تريد أن تقتلعه من جذوره، وتأخذه إلى حيث لا يعود.

والفرد المسلم في هذه المجتمعات يعيش في محنة قاسية، بل في معركة دائمة، فقلما يجد من يعينه، وإنما يجد من يعوقه.
ولهذا ينبغي لأهل الفتوى أن ييسروا عليه ما استطاعوا، وأن يعرضوا عليه جانب الرخصة أكثر من جانب العزيمة، ترغيبا في الدين، وتثبيتا لأقدامه على طريقه القويم، وقد نقل الإمام النووي في مقدمات “المجموع” كلمة حكيمة للإمام الكبير ـ إمام الفقه والحديث والورع ـ سفيان الثوري، قال فيها: “إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد!.
فالفقيه حقا ـ في نظر الثوري رحمه الله ـ من يراعي الرخص والتيسير على عباد الله، شرط أن يكون ثقة في علمه ودينه.

وكان منهج الصحابة ومن تخرج على أيديهم هو التيسير والرفق بالناس، ثم بدأ التشديد يدخل على العلماء شيئا فشيئا، وعصرا بعد عصر، حتى أصبح هو طابع المتأخرين.
روى الحافظ أبو الفضل بن طاهر في كتاب “السماع” بسنده عن عمر بن إسحاق من التابعين قال: كان من أدركتي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من مائتين، لم أر قوما أهدى سيرة، ولا أقل تشديدا منهم.

وهكذا كان علماء السلف: إذا شددوا فعلى أنفسهم، أما على الناس فييسرون ويخففون.
ولقد وصفوا الإمام المزني صاحب الشافعي في معرض الثناء عليه، بأنه “كان أشد الناس تضييقا على نفسه في الورع، وأوسعه في ذلك على الناس”.
وكذلك وصفوا الإمام التابعي الجليل محمد بن سيرين، قال تلميذه عون: كان محمد أرجى الناس لهذه الأمة، وأشدهم أزرا على نفسه.
هذا وزمنهم زمن الإقبال على الدين، فكيف بزماننا والناس عنه مدبرون؟!
إننا أحوج ما نكون إلى التوسعة على الناس.
وهذا ما اخترته لنفسي: أن أيسر في الفروع، على حين أشدد في الأصول.
وليس معنى هذا أن ألوي أعناق النصوص رغما عنها، لأستخرج منها ـ كرها ـ معاني وأحكاما تيسر على الناس.كلا، فالتيسير الذي أعنيه، هو الذي لا يصادم نصا ثابتا محكما، ولا قاعدة شرعية قاطعة، بل يسير على ضوء النصوص والقواعد والروح العامة للإسلام.
ولهذا لم أتساهل قط في تحريم الفوائد الربوية من البنوك وغيرها، لأني أجد النصوص في ذلك صريحة محكمة، تتحدى أي متهاون في شأنها.

ولم أتسهل في أمر التدخين ـ رغم عموم البلوى به ـ لأني أجد قواعد الشرع تمنعه وتأباه.
وتساهلت في موضوعات أخرى، لأني لم أجد من النصوص الملزمة ما يدل على التحريم.
وتبنيت رأي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه في أمر الطلاق، لأني وجدته يعبر عن روح الإسلام، ومقاصد الشريعة ويتمشى مع نصوص القرآن والسنة عند التحقيق.
وعلى العموم: إذا كان هناك رأيان متكافئان: أحدهما أحوط، والثاني أيسر، فإني أؤثر الإفتاء بالأيسر، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.

أما الأحوط فيمكن أن يأخذ به المفتي في خاصة نفسه، أو يفتي به أهل العزائم والحريصين على الاحتياط، ما لم يخش عليهم الجنوح إلى الغلو.