أصل هذه المسألة ما جاء في الصحيحين عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيه وَأُمِّهِ . متفق عليه.
وقد بوَّب الإمام البخاري في صحيحه بابًا بعنوان: باب: هل يبيع حاضر لباد بغير أجر وهل يعينه أو ينصحه.

والإمام مسلم جعل في صحيحه بابًا بعنوان: باب: تحريم بيع الحاضر للبادي.

والحاضر هو من يسكن الحضر، ونقصد بالحضر أهل القرى والمدن، أما البادي فهو من يسكن البادية.
وفسَّر حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما هذا البيع فقال: لا يكون له سمسارا.

ولهذا البيع صورتان:
الصورة الأولى: أن يتولَّي من يقيم في المدينة (الحضري) بيع سلعة من قدم من البادية عن طريق السمسرة، وذلك أن يخرج الحضري إلى البادي، وقد جلب الأخير سلعته، فيعرفه السعر، ويقول : أنا أبيع لك.

أما الصورة الثانية: فهي أن يبيع الحضري سلعته للبدوي، وذلك طمعا في الثمن الغالي، فهو منهي عنه، لما فيه من الإضرار.
وهناك قيود لهذا النهي منها أن يكون ما يقدم به البادي، مما تعم الحاجة إليه وأن يكون قصد البادي البيع حالا، وأن يكون البيع على التدريج بأغلى من بيعه حالا، وأن يكون البادي جاهلا بالسعر.
وفي هذا النهي من الشريعة تقديم للمصلحة العامة على المصلحة الفردية، ومصلحة الفرد تحترم إلا إذا تعارضت مع مصلحة الأمة فعندئذ تقدم مصلحة الأمة على المصلحة الفردية، والضرر العام يُدفع بالضرر الخاص، وهذا الحديث نصٌّ في هذا.

جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية:
لا يختلف الفقهاء في منع هذا البيع . فقد ورد النهي عنه في أحاديث كثيرة منها : حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال { : لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد، ولا تصروا الغنم } ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس، يرزق الله بعضهم من بعض } ومنها حديث أنس رضي الله عنه قال { : نهينا أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أخاه وأباه } وفي لفظ { وإن كان أخاه لأبيه وأمه }

علة النهي عن بيع الحاضر للبادي :

اختلف الفقهاء في علة هذا النهي : فمذهب الجمهور، بناء على التفسير الأول، أن المعنى في النهي عن ذلك، هو ما يؤدي إليه هذا البيع من الإضرار بأهل البلد، والتضييق على الناس . والقصد أن يبيعوا للناس برخص . قال ابن القاسم : لم يختلف أهل العلم في أن النهي عن بيع الحاضر للبادي إنما هو لنفع الحاضرة، لأنه متى ترك البدوي يبيع سلعته، اشتراها الناس برخص، ويوسع عليهم السعر، فإذا تولى الحاضر بيعها، وامتنع من بيعها إلا بسعر البلد، ضاق على أهل البلد، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في تعليله إلى هذا المعنى .
ومذهب بعض الحنفية، كالمرغيناني والكاساني، وكذلك التمرتاشي – فيما يبدو بناء على التفسير الثاني – أن المعنى في النهي عن ذلك، وهو الإضرار بأهل المصر، من جهة أخرى غير الرخص، وهي : أن يكون أهل البلد في حال قحط وعوز إلى الطعام والعلف، فلا يبيعهما الحضري – مع ذلك – إلا لأهل البدو، بثمن غال.
ذهب جمهور الفقهاء إلى أنه محرم مع صحته، وصرح به بعض الحنفية وعبر عنه بعضهم بالكراهة، وهي للتحريم عند الإطلاق . كما صرح به المالكية والشافعية والحنابلة، لكنه مع ذلك صحيح عند جمهورهم، كما هو رواية عن الإمام أحمد . والنهي عنه لا يستلزم الفساد والبطلان، لأنه لا يرجع إلى ذات البيع، لأنه لم يفقد ركنا، ولا إلى لازمه، لأنه لم يفقد شرطا، بل هو راجع لأمر خارج غير لازم، كالتضييق والإيذاء.