يقول فضيلة الشيخ عطية صقر -رحمه الله تعالى- رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر:
ذهب المعتزلة إلى أن أيّة قُرْبَة يُهديها الحي إلى الميّت لا تنفعه، بناء على قولهم بوجوب العدل، واستدلُّوا على رأيهم هذا بقوله تعالى: (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى . وإبْراهيمَ الذِي وَفَّى . أَلاَّ تَزِرَ وازِرةٌ وِزر أُخْرَى . وأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسانِ إِلاَّ مَا سَعَى . وأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى . ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى) (سورة النجم : 36 ـ 41)

أمّا أهل السنة فقالوا: هناك قُرَبٌ يجوز للحَيّ أن يفعلَها ويَستفيد منها المَيّت، بل وسّع بعضُهم الدّائرة حتّى شملت كلّ القُرَب، قال في شرح الكنز: إن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره، صلاة كان أو صومًا أو حجًّا أو صدقة أو قراءة قرآن أو غير ذلك من جميع أنواع البِرِّ ويصل ذلك إلى الميت، وينفعه عند أهل السُّنّة “نيل الأوطار ج 4 ص 142” ودليلُهم على ذلك عدم ورود نص مانع، وكذلك الرجاء في رحمة الله وفضله أن يُفيد الميت بعمل الحي في النوافل، كما أفاده في الفرائض المَقضيّة عنه، فضلاً عن الأدلة الواردة في بعض القُرَب، من حيث نُدِبَ عَمَلُها ليفيد منها الميّت كما سيأتي بيانه. وردوا دليل المعتزلة بما يأتي:

1 ـ أن الآية المذكورة منسوخة بقوله تعالى: (والذِينَ آَمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتَهُمْ بِإِيمانٍ ألْحَقْنَا بِهِمْ ذُرَّيَّتَهُمْ ومَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْء كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِين) (سورة الطور : 21) كما قاله ابن عباس، فإن الكِبار يَلحقون بآبائهم في الجنة، وإن لم يكونوا في منزلتهم إكرامًا ـ للآباء باجتماع الأولاد إليهم، وضعف ابن القيِّم هذا القول في كتابه “الروح”.

2 ـ أن هذه الآية خاصّة بشريعة موسى وإبراهيم، وأمّا في شريعتنا فالحكم بخِلاف ذلك.
3 ـ أن عدم انتفاع الإنسان بعمل غيره مخصوص بالكافر، أما المؤمن فيجوز أن ينتفعَ بسعي غيره من المؤمنين.
4 ـ أن اللام في “الإنسان” بمعنى” على” مثل قوله تعالى: (ولَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي عليهم، والمعنى أن الإنسان ليس عليه إلا عمله، أي أن ذلك في العقاب، أما الثواب فليس هناك ما يمنع انتفاع الإنسان بعمل غيره وهذه الردود يمكن أن تُناقَش.

5 ـ أن الآية تُبَيّن أنه ليس للإنسان إلا عمله استحقاقًا بطريق العدل، أما تفضُّلاً من غيره فلا مانع من أن ينتفع به، فالدعاء والشفاعة عمل الغير ويستفيد منه الميِّت. وهذا الجواب هو أصح الأجوبة، وركَّز عليه ابن تيمية في فتاويه “ج 24 ص 366” حيث قال ما ملخصه:
الاتفاق على وصول ثواب العبادات الماليّة، كالصدقة والعِتق، كما يصل إليه الدعاء والاستغفار. أما الأعمال البدنيّة كالصلاة والصيام والقراءة فاختلفوا فيها. والصواب أن الجميع يصلُ إليه… إلى أن قال: وهذا مذهب أحمد وأبي حنيفة وطائفة من أصحاب مالك والشافعي. وأما احتجاج بعضهم بأن ليس للإنسان إلا ما سعى فيُقال: ثبت بالسُّنّة المتواترة وإجماع الأئمة أنه يُصلَّى ويُستغفر له ويُدْعَى له، وهذا من سَعي غيره. والجواب الحقّ أن الله لم يقل إن الإنسان لا ينتفع إلا بسعي نفسه وأنّه قال: (وأَنْ لَيْسَ لِلإنسانِ إِلاَّ مَا سَعَى) فهو لا يملِك إلا سعيَه، ولا يستحِقُّ غير ذلك. وأما سعى غيره فهو له، كما أن الإنسان لا يملك إلا مال نفسه ونفع نفسه، فمال غيره ونفع غيره هو كذلك للغير، لكن إذا تبرَّع له الغير بذلك جاز. أهـ. وقد ارتضى هذا القول ابن عطيّة في تفسيره.

هذا، وقد جاء في معجم الفقه الحنبلي “ص 941 طبعة أوقاف الكويت” أن أيّة قُرْبة يفعلها الحي ويهَب ثوابها للميت تنفعُه إن شاء الله، وقال ابن قدامة في “المغني ” قال أحمد بن حنبل: الميّت يصل إليه كلّ شيء من الخير، للنصوص الواردة فيه؛ لأنّ المسلمين يجتمعون في كل مصر يقرؤون ويُهدون لموتاهم من غير نكير فكان إجماعًا. وإن كان هذا العمل لا يُعتبر حجة والإجماع عليه ليس دليلاً، كما رأي بعض العلماء.

وقال ابن القيم: والعبادات قسمان: “ماليّة، وبدنيّة” وقد نبَّه الشارع بوصول ثواب الصّدقة على وصول سائر العبادات الماليّة، ونبّه بوصول ثواب الصيام على وصول سائر العبادات البدنيّة، وأخبر بوصول ثواب الحج المركب من الماليّة والبدنيّة، فالأنواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار.