الوقف من حيث الجواز واللزوم والمنع مبني على فهم المعنى. كالإعراب في النحو، فهو فرع المعنى.
ولهذا تتفاوت المصاحف في مواضع الوقف والوصل، والحكم عليها تبعًا لتفاوت أفهام المشرفين عليها. فتجد بعض المصاحف يوجب الوقف على موضع معين من آية، ويرى لزومه، ويضع حرف ” الميم” الدالة على ذلك، على حين تجد مصاحف أخرى ليس فيها هذا الرمز.
وتجد مصاحف تضع علامة المنع من الوقف، وهو حرف ” لا ” وأخرى لا توافقها.
ومصاحف تضع علامة ترجيح الوقف” قلي “، أو ترجيح الوصل” صلي”، أو علامة تجويز الطرفين “ج” وأخرى تخالفها في ذلك.
وأفضل المصاحف في ذلك في رأيي هو المصحف الذي أشرفت عليه اللجنة العلمية الشهيرة من كبار علماء الشريعة والقراءات واللغة في مصر، وهو المصحف المعروف باسم” مصحف الملك ” وإن كان هناك بعض استدراكات قليلة عليه، كأي عمل بشري.
ومن القراء العصريين من لا يتأمل المعنى جيدًا، فيقف حيث لا ينبغي أن يقف، كما في الآية الكريمة المسئول عنها من سورة المائدة.
فقد جاءت الآية في سياق الحوار بين موسى وقومه، لحثهم على دخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم دخولها، ورغم التذكير والتبشير والتحذير، أصر القوم على ألا يدخلوها ما دام فيها أهلها، فإن خرجوا منها فلا مانع إذن أن يدخلوها!!.
وانتهى الحوار بهذا القول الوقح من القوم لنبيهم ومنقذهم: (قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) (المائدة: 24)
فماذا كان جواب موسى؟.
(قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فَافْرُقْ بيننا وبين القوم الفاسقين) (المائدة: 25)، وهنا جاء الحكم الإلهي القدري: (قال فإنها مُحَرَّمَة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين) (المائدة: 26).
فتحريم الأرض المقدسة عليهم لم يكن تحريمًا مؤبدًا ولا مطلقًا، بل هو مقيد بهذه السنين الأربعين، عقوبة من الله لهم، وحتى يتربى جيل جديد في رحابة الصحراء بعيدًا عن قهر الفراعنة، وذل الاستبداد، ولو كان التحريم دائمًا ما دخلوها قديمًا بعد موسى، وقام لهم ملك داود وسليمان عليهما السلام، ولا دخلوها حديثًا، وأقاموا فيها دولتهم التي فعلت بنا الأفاعيل.
والوقف على قوله: (فإنها مُحَرَّمَة عليهم) كما يحلو لبعض القراء، يفسد المعنى، ويوهم بالتحريم المطلق، وإن” الأربعين سنة ” منفصلة عن التحريم، ومقصورة على التيه وحده، والصواب أن مدة التحريم هي نفسها مدة التيه، وذلك يتبين بالوصل بين خبر ” إن” وظرفه الزماني، فتكون القراءة (فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض).