الله تعالى لا يؤاخذنا بما يجول في خاطرنا من الوساوس الشيطانية ما لم نعمل بها أو نتكلم بها؛ لأن الصحابة اشتكوا للرسول صلى الله عليه وسلم مما يجدون في أنفسهم من خواطر شيطانية وقالوا :إن أحدنا يجد في نفسه ما يتعاظم أن يتحدث به، ويرى أن التحدث به كفر ، فطمأنهم بأن هذا لا إثم فيه ، وأن إنكارهم لما يجدونه من الوساوس دليل على إيمانهم ، وأمرهم أن يستعيذوا بالله وينطقوا بالشهادة وكلمة التوحيد عندما يجدون مثل هذه الوساوس.

وقد أُمرنا بمخالفة الشيطان في كثير من آيات الذكر الحكيم، قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر”، وقال تعالى: “إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوًا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير”، والآيات في هذا المعنى كثيرة، ومنها قوله تعالى: “الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً”.
والتفكير في ذات الله (عز وجل) أمر منهي عنه، والبديل عن ذلك شرعًا أن أمامنا كونًا رحبًا فسيحًا؛ فليتدبر الإنسان هذا الكون، وينظر في ملكوت السماوات والأرض، قال تعالى: “قل انظروا ماذا في السموات والأرض”، وقال تعالى: “إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب”، وقال تعالى: “أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت * وإلى السماء كيف رُفعت * وإلى الجبال كيف نُصبت * وإلى الأرض كيف سُطحت”. فهذا هو التفكر المشروع الذي يوصل صاحبه إلى الإيمان الكامل بالخالق (عز وجل).
أما التفكر في ذات الله فمنهي عنه لقوله (صلى الله عليه وسلم): “تفكروا في آلاء الله، ولا تتفكروا في ذاته؛ فتهلكوا”، كما أن الموت الذي خلقه الله وأمرنا بتذكره، فإن هذا التذكر لا لليأس ولا للقنوط، بل ليدفع الإنسان إلى العمل والإقبال على شرع الله، لكي يكون من السعداء إذا ما جاءه هذا الموت الذي قدره الله.
وللخروج من هذا الوضع السيئ يجب على المسلم حينما يأتيه الشيطان ليسوِّل له التفكر في ذات الله، أن يتفُل على يساره ثلاثًا، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، لقوله عز وجل: “وإمَّا ينزغنَّك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم”.

يقول الشيخ عطية صقر-رحمه الله تعالى- رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقا:
إن للشيطان مداخل كثيرة لإغواء الإنسان، وأشد ما يهتم به العقيدة، لأنها إذا انحرفت انحرف السلوك كما صح في الحديث “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب” رواه البخاري ومسلم.

والنفس مرتع خصيب لوسوسة الشيطان، فقد تمر عليها أفكار وخواطر كثيرة، بعضها يمر عابرًا لا يمكث إلا قليلا، وبعضها يأخذ حيزًا من تفكير الإنسان ثم يمضي، وبعضها الآخر قد يثبت ويرسخ ويدفع للتنفيذ.

وإذا كانت هذه هي طبيعة النفس البشرية التي خلقنا الله عليها فإنه –وهو العليم اللطيف الخبير- تجاوز عن كل هذه الخواطر ولا يؤاخذ عليها؛ إلا في حالتين:
الأولى: إذا عزم الإنسان عليها عزمًا أكيدًا وصمم على تنفيذها، بدليل حديث الصحيحين: البخاري ومسلم “إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار” قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال “كان حريصًا على قتل صاحبه”.
والحالة الثانية: إذا نفذ ما عزم على تنفيذه، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به” رواه الجماعة في كتبهم الستة كما قال ابن كثير في تفسيره.

ومحل المؤاخذة على العزم على السيئة، وإن لم يفعلها، إذا كان المانع من فعلها عجزًا أو خوفًا من رقيب من الناس، لكن إذا كان المانع من تنفيذ ما عزم عليه خوفًا من الله فلا يؤاخذهن بل قد يعطيه ثوابًا على مجاهدة نفسه، وبهذا يوفق بين ما قد يكون في بعض النصوص من تضارب في الظاهرة.

بعد هذا نقول: إن من خواطر السوء ما جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم. يأتي الشيطان أحدكم فيقول له: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته” وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقال “تلك محض الإيمان ” وفي رواية “صريح الإيمان” بمعنى أن الخوف من هذه الوسوسة يدل على الإيمان الخالص، لا أن الوسوسة تكون من الإيمان.

وقد بيّن الحديث الدواء الناجح لهذه الوسوسة، وهو الاستعاذة بالله والانتهاء عن التمادي فيها والركون إليها، وذلك من وحي قوله تعالى (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) {الأعراف: 200}.
وإذا استعاذ الإنسان الضعيف بالله القوي كان ذلك دليلاً على عبوديته الخالصة له، والله يقول للشيطان الذي أقسم أن يغوي الناس أجمعين (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) {الحجر: 42}. ويوضح هذا ما حكى عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده. قال: هذا يطول؟ قال: أرايت لو مررت بغنم ينبحك كلبها ومنعك من العبور ما تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي قال: هذا يطول عليك؟ لكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك. فالاستعانة بالله القوي سبيل لطرد وساوس الشيطان. (انتهى).