النقود الورقية وأنواعها:
هي قطعة من ورق خاص، تزين بنقوش خاصة، وتحمل أعدادًا صحيحة، يقابلها في العادة رصيد معدني بنسبة خاصة يحددها القانون وتصدر إما من الحكومة، أو من هيئة تبيح لها الحكومة إصدارها، ليتداولها الناس عملة.
وقد انتشر هذا النوع من النقود حتى عم استعماله جميع الدول الحديثة، وإنما دعاها إلى ذلك اتساع نطاق المعاملات الداخلية والخارجية، وعدم كفاية النقود المعدنية وحدها لتلبية ما تتطلبه الحركة الاقتصادية.

وتعتبر النقود الورقية كالنقود المعدنية في أن كلا منهما واسط للتبادل، مع أن الورقية ليست إلا تعهدًا بالدفع، نجدها تستخدم كالنقود المعدنية في وفاء الديون، والحصول على ما يحتاج إليه الإنسان من أمتعة وسلع وخدمات (انظر كتاب “النظم النقدية والمصرفية” للدكتور عبد العزيز مرعى – طبعة 1958 ص 20 – 22).

وتنحصر النقود الورقية في أنواع ثلاث: ثابتة، ووثيقة، وإلزامية.
1 – النقود الثابتة:

صكوك تمثل كمية من الذهب أو الفضة، مودعة بمصرف معين، في صورة نقود أو سبائك تعادل قيمتها المعدنية قيمة هذه الصكوك التي تصرف عند الطلب، ويمكن القول بأن هذه نقود معدنية تأخذ مظهر صكوك ورقية، ليسهل حملها ونقلها، ولا تتعرض للتحات والتآكل.

2 -النقود الوثيقة:

هي صكوك تحمل تعهدًا من الموقع عليها، أن يدفع لحاملها عند الطلب مبلغًا معينًا، ومن هذا النوع أوراق النقد المصرفية “البنكنوت” التي تصدرها “بنوك” الإصدار بإذن من الحكومة، ولها رصيد معدني تحتفظ به البنوك، وتحرص على النسبة التي يحددها القانون بينها وبينه، لتظل هذه النقود مضمونة مأمونة، تنتفع بها المصارف والجمهور والاقتصاد العام.

3 – النقود الورقية الإلزامية:

وهى غير القابلة للصرف بالذهب أو الفضة فهي نوعان:.
نقود ورقية حكومية: تصدرها الحكومات في أوقات غير عادية، وتجعلها نقودًا رئيسية ولكنها لا تستبدل بالمعدن النفيس، ولا يقابلها رصيد معدني.
نقود ورقية مصرفية “بنكنوت” يصدر بشأنها قانون يعفي بنك الإصدار الذي أصدرها من التزام صرفها بالمعدن النفيس (المرجع السابق ص 20 – 22).
وقد اتبعت معظم الدول -بعد الحرب العالمية الأولى- نظام النقود المصرفية الإلزامية، لتشبع بها حاجة التبادل المحلي وتوفر المعدن النفيس للتبادل الخارجي أو لتوظيفه في الاستثمار (نفس المرجع ص 65) .
وهذه النقود الإلزامية تستمد قيمتها من إدارة المشرع، لا من ذاتها: لأنها لا تحمل قيمة سلعية، ولهذا تفقد قيمتها إذا ألغى التبادل بها، أما النقود التي تقبل الصرف بالمعدن، فتجمع بين قيمتها القانونية، وقيمتها كسلعة (المرجع نفسه ص 67) .
هذا تمهيد لابد منه لمعرفة طبيعة هذه النقود الورقية ووظيفتها وبناء على ذلك علينا أن نعرف الحكم الشرعي في زكاتها فهل لها حكم تخالف به النقود المعدنية ؟ وما هو ؟.

زكاة النقود الورقية:.
لم تعرف النقود الورقية إلا في العصر الحاضر، فلا نطمع أن يكون لعلماء السلف فيها حكم، وكل ما هنالك أن كثيرًا من علماء العصر يحاولون أن يجعلوا فتواهم تخريجًا على أقوال السابقين، فمنهم من نظر إلى هذه النقود نظرة فيها كثير من الحرفية والظاهرية، فلم ير هذه نقودًا: لأن النقود الشرعية إنما هي الفضة والذهب، وإذن لا زكاة فيها.

وبهذا أفتى الشيخ عليش -مفتى المالكية في مصر في عصره- فقد استفتى في حكم “الكاغد” -الورق- الذي فيه ختم السلطان، ويتعامل به كالدراهم والدنانير فأفتى: أن لا زكاة فيه (انظر: رسالة “التبيان في زكاة الأثمان” للشيخ محمد حسنين مخلوف العدوى ص 33) .
وكذا أفتى بعض الشافعية بأن لا زكاة فيها، حتى تقبض قيمتها ذهبًا أو فضة، ويمضى على ذلك حول، بناء على أن المعاملة بها حوالة غير صحيحة شرعًا، لعدم الإيجاب والقبول اللفظيين (الفقه على المذاهب الأربعة – الطبعة الثانية).
وفى كتاب “الفقه على المذاهب الأربعة” (الفقه ص 486 – الطبعة الخامسة) الذي ألفته لجنة تمثل علماء هذه المذاهب في مصر نقرأ ما يأتي:.
الشافعية قالوا: الورق النقدي، التعامل به من قبيل الحوالة على البنك بقيمته، فيملك قيمته دينًا على البنك، والبنك مليء مقر مستعد للدفع حاضر، ومتى كان المدين بهذه الأوصاف وجبت زكاة الدين في الحال وعدم الإيجاب والقبول اللفظيين في الحوالة لا يبطلها حيث جرى العرف بذلك.
على أن بعض أئمة الشافعية قال: المراد بالإيجاب والقبول كل ما يشعر بالرضا من قول أو فعل، والرضا هنا متحقق.
الحنفية قالوا: الأوراق المالية -البنكنوت- من قبيل الدين القوى، إلا أنها يمكن صرفها فضة فورًا فيجب فيها الزكاة فورًا.
المالكية قالوا: أوراق البنكنوت -وإن كانت سندات دين- إلا أنها يمكن صرفها فضة فورًا، وتقوم مقام الذهب في التعامل، فيجب فيها الزكاة بشروطها.
الحنابلة قالوا: “لا تجب زكاة الورق النقدي إلا إذا صرف ذهبًا أو فضة، ووجدت فيه شروط الزكاة”.
ومن هذه الأقوال المنسوبة إلى المذاهب، نعلم أن أساسها هو اعتبار هذه الأوراق سندات دين على بنك الإصدار، وأنها يمكن صرف قيمتها فضة فورًا، فتجب الزكاة فيها فورًا عند المذاهب الثلاثة، وعند الصرف فعلاً على مذهب الحنابلة ونحن نعلم أن القانون أصبح يعفى أوراق النقد المصرفية “البنكنوت” من أن يلتزم البنك صرفها بالذهب أو الفضة، وبهذا ينهار الأساس الذي بنى عليه إيجاب الزكاة في هذه الأوراق.
هذا مع أن هذه الأوراق أصبحت هي أساس التعامل بين الناس، ولم يعد يرى الناس العملة الذهبية قط، ولا الفضية، إلا في المبالغ التافهة، أما عماد الثروات والمبادلات فهو هذه العملة الورقية.

إن هذه الأوراق أصبحت -باعتماد السلطات الشرعية إياها- وجريان التعامل بها- أثمان الأشياء ورؤوس الأموال، وبها يتم البيع والشراء والتعامل داخل كل دولة، ومنها تصرف الأجور والرواتب والمكافآت وغيرها، وعلى قدر ما يملك المرء منها يعتبر غناه، ولها قوة الذهب والفضة في قضاء الحاجات، وتيسير المبادلات، وتحقيق المكاسب والأرباح، فهي بهذا الاعتبار أموال نامية أو قابلة للنماء، شأنها شأن الذهب والفضة.

صحيح أن الذهب والفضة لهما قيمة مالية ذاتية من حيث إنهما معدنان نفيسان، حتى لو بطل التعامل بهما نقدين لبقيت قيمتهما المالية معدنين، نعم هذا صحيح، ولكن الذي يفهم من روح الشريعة ونصوصها أنها لم توجب الزكاة في الذهب والفضة لمحض ماليتهما: إذ لم توجب الزكاة في كل مال، بل في المال المعد للنماء، والذهب والفضة إنما اعتبرهما الشارع مالاً معدًا للنماء من جهة أنهما أثمان للأشياء وقيم لها، فالثمينة مراعاة مع المالية أيضًا، ولهذا كان عنوان زكاة الذهب والفضة في كثير من الكتب: زكاة “الأثمان” أو زكاة “النقدين”.

ومن أجل هذا لا يسوغ أن يقال للناس -إن بعض المذاهب لا يرى إخراج الزكاة عن هذه الأوراق، وينسب ذلك إلى مذهب أحمد أو مالك أو الشافعي أو غيرهم فالحق أن هذا أمر مستحدث ليس له نظير في عصر الأئمة المجتهدين -رضى الله عنهم- حتى يقاس عليه ويلحق به.

والواجب أن ينظر إليه نظرة مستقلة في ضوء واقعنا وظروف حياتنا وعصرنا.

وقد قال العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوى -رحمه الله- في رسالته “التبيان في زكاة الأثمان” إذ قال معقِّبًا على تخريج زكاة الأوراق المالية على زكاة الدين المعروف عند الفقهاء القدامى، واعتبار هذه الأوراق سند دين (صكًا كالكمبيالة) لا تجب تزكيته إلا على مذهب من لا يشترط القبض في تزكية الدين إذا كان على ملئ مقر- قال: ولا يخفى أن تخرج زكاة الأوراق المالية على زكاة الدين -مع كونه مجحفًا بحق الفقراء على غير ما ذهب إليه الشافعية- مبنى على اعتبار القيمة المضمونة بهذه الأوراق كدين حقيقي في ذمة شخص مدين، وأن هذه الأوراق كمستندات ديون حقيقية.

مع أن هناك فرقًا بين هذه الأوراق، وما هو مضمون بها، وبين الدين الحقيقي وسنده المعروف عند الفقهاء، فإن الدين ما دام في ذمة المدين لا ينمو ولا ينتفع به ربه، ولا يجرى التعامل بسنده رسمًا ولذلك قيل بعدم وجوب زكاته، لأنه ليس مالاً حاضرًا معدًا للنماء، بحيث ينتفع به ربه، بخلاف قيمة هذه الأوراق، فإنها نامية منتفع بها كما ينتفع بالأموال الحاضرة، وكيف يقال: إن هذه الأوراق من قبيل مستندات الديون، ومستند الدين ما أخذ على المدين للتوثق وخشية الضياع، لا لتنمية الدين في ذمة المدين، ولا للتعامل به ؟! أو يقال: لا تجب الزكاة فيها حتى يقبض بدلها نقدًا ذهبًا أو فضة، مع أن عدم الزكاة في الدين -كما علمت- إنما هو لكونه ليس معدًا للنماء، ولا محفوظًا بعينه في خزانة المدين ؟.

والفقهاء إنما حكموا بعدم زكاة الدين ما دام في ذمة المدين حتى يقبضه المالك نظرًا لهذه العلة، واستثنى الشافعية دين الموسر إذا كان حالاً، فإنه يزكى قبل قبضه كالوديعة، نظرًا إلى أنه في حكم الحاضر المعد للنماء، فلو فرض نماؤه كما في بدل الأوراق المالية لما كان هناك وجه لتوقف الزكاة على القبض، ولما خالف في ذلك أحد من العلماء.

فالحق أن هذا النوع من الدين نوع آخر مستحدث لا ينطبق عليه حقيقة الدين وشروطه المعروفة عند الفقهاء، ولا يجرى فيه الخلاف الذي جرى في زكاة الدين، بل ينبغي أن يتفق على وجوب الزكاة فيه، لما علمت أنه كالمال الحاضر.
إلى أن قال: ولو فرض أنه ليس في البنك شيء من النقود، ونظر إلى تلك الأوراق في ذاتها بقطع النظر عما يعادلها، وعن التزام التعهد المرموق بها، واعتبر وجهة إصدار الحكومة لها، واعتبر الملة (الدولة أو الأمة) لها أثمانًا رائجة، لكانت كالنقدين تجب زكاتها على القول بأن الزكاة في النقدين معلولة بمجرد الثمنية ولو لم تكن خلقية كما تقدم في زكاة الفلوس وقطع الجلود والكواغد.

فتحصل أن الأوراق المالية يصح أن تزكى باعتبارات أربعة:.
الأول: باعتبار المال المضمون بها في ذمة البنك، وأنه كمال حاضر مقبوض، وإن لم يكن كالدين المعروف عند الفقهاء من كل وجه.

الثاني: زكاتها باعتبار الأموال المحفوظة بخزانة البنك، وعلى هذين الاعتبارين فالزكاة واجبة فيها اتفاقًا.

الثالث: زكاتها باعتبار قيمتها دينًا في ذمة البنك فتزكى زكاة الدين الحال على مليء كما ذهب إليه الشافعي.

الرابع: زكاتها باعتبار قيمتها الوضعية عند جريان الرسم بها في المعاملات واتفاق الملة على اتخاذها أثمانًا للمقومات، وعلى ذلك فوجوب الزكاة فيها ثابت بالقياس كزكاة الفلوس والنحاس” أ هـ.

نقول: هذا الاعتبار الأخير هو الذي يجب أن يعول عليه، في حكم النقود الورقية الإلزامية التي هي عمدة التبادل والتعامل الآن، والتي لم يعد يشترط أن يقابلها رصيد معدني بالبنك، ولا يلتزم البنك صرفها بذهب أو فضة.
وربما كان الخلاف في أمر هذه الأوراق مقبولاً في بدء استعمالها، وعدم اطمئنان الجمهور إليها، شأن كل جديد (مثال ذلك الخلاف الذي حدث عند ظهور قهوة البن: أيحل شربها أم يحرم ؟ وألفت في ذلك رسائل ثم استقر الأمر على الحل، انظر: الفواكه العديدة للمنقور: 410/1 – 413، وقد نقل فيها أقوال ابن حجر الهيثمي الشافعي، والشيخين: زروق والحطاب المالكيين، وغيرهم)، أما الآن فالوضع قد تغير تمامًا.
لقد أصبحت هذه الأوراق النقدية تحقق داخل كل دولة ما تحققه النقود المعدنية، وينظر المجتمع إليها نظرته إلى تلك.
إنها تدفع مهرًا، فتستباح بها الفروج شرعًا دون أي اعتراض.
وتدفع ثمنًا، فتنقل ملكية السلعة إلى دافعها بلا جدال.
وتدفع أجرًا للجهد البشرى، فلا يمتنع عامل أو موظف من أخذها جزاء على عمله.
وتدفع دية في القتال الخطأ أو شبه العمد، فتبرئ ذمة القاتل، ويرضى أولياء المقتول، وتسرق فيستحق سارقها عقوبة السرقة بلا مراء من أحد.
وتدخر وتملك، فيعد مالكها غنيًا بقدر ما يملك منها، فكلما كثرت في يده، عظم غناه عند الناس وعند نفسه (لا معنى إذن لما يقوله بعض “المتحذلقين” في عصرنا من أن النقود الشرعية هي الذهب والفضة، فهي التي تجب فيها الزكاة، وهى التي يجرى فيها الربا !!).
ومعنى هذا كله: أن لها وظائف النقود الشرعية وأهميتها ونظرة المجتمع إليها، فكيف يسوغ لنا أن نحرم الفقراء والمساكين وسائر المستحقين من الانتفاع بهذه النقود ووظائفها المتعددة الوفيرة ؟ أليس الناس كل الناس يسعون إلى تحصيلها جاهدين ؟ أليس ملاكها يعدونها نعمة يجب أن تشكر ؟ أليس الفقراء يتعطلون إليها، ويسيل لعابهم شوقًا إليها ؟ أليسوا يفرحون بها إذا أعطوا القليل منها ؟ بلى والله !.

ونختم هذه النقطة بما قرره بعض أساتذة الاقتصاد: أنه يمكن القول بأن النقود هي كل ما يستعمل مقياسًا للقيم، وواسطة للتبادل، وأداة للادخار، فأي شيء يؤدى هذه الوظيفة يعتبر نقودًا، بصرف النظر عن المادة المصنوع منها، وبصرف النظر عن الكيفية التي أصبح بها وسيلة التعامل في مبدأ الأمر، فما دامت هناك مادة يقبلها كل المنتجين في مجتمع ما للمبادلة نظير ما يبيعون، فهذه المادة نقود (النظم النقدية والمصرفية ص 29).