الحكمة من نسخ حكم الآية مع بقاء رسمها وجودها للتذكير بها قبل نسخها والتعبد بتلاوتها، أما نسخ لفظ الآية مع بقاء حكمها فهذا مما لا يصح اعتقاده لأن القرآن ثبت بالتواتر ولا يقبل خبر الآحاد الذي ينص على الزيادة في القرآن أو النقص منه .

يقول فضيلة الشيخ محمد رشيد رضا-رحمه الله-:

فمن حكمة بقاء الآية التي نسخ حكمها : التذكير بنعمة النسخ , والتعبد بتلاوتها ، أما نسخ لفظ الآية مع بقاء حكمها , أو نسخ لفظها وحكمها معًا فمما لا يجب علينا اعتقاده وإن قال به القائلون ورواه الراوون ، وقد علله القائلون به والتمسوا له من الحكمة ما هو أضعف من القول به ، وأبعد عن المعقول .

واعلم أن القرآن كلام الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو أصل الدين وأساسه ، أحكمت آياته , فلا تفاوت فيها ولا اختلاف ولا تناقض ولا تعارض , وما ذكروه من الجمل التي قالوا : إنها كانت من القرآن ونسخ لفظها لا تضاهي أسلوب القرآن ولا تحاكيه في بلاغته , والتصديق بذلك مدعاة لتشكيك الملحدين في القرآن .

وقد ثبت أن بعض الزنادقة كانوا في زمن الرواية وتلقي الحديث من الرجال يلبسون لباس الصالحين ويضعون الحديث ، وكان يروج على الناس لاستيفائهم شروط الرواة الظاهرة من العدالة وحسن الحفظ وغير ذلك ، حتى إن بعضهم تاب ورجع عما كان وضعه ولولا اعترافه به لم يعرف ، فما يدرينا أن بعضهم مات ولم يتب ولم تعرف حقيقة حاله ، وبقي ما وضعه رائجًا مقبولاً لم يطعن في سنده أهل النقد .

لأجل هذا لا يعتمد على الحديث إلا إذا كان مع صحة سنده موافقًا لأصول الدين الثابتة بالقطع ، ولغير ذلك من الحقائق القطعية ككون الشمس لا تغيب عن الأرض كلها عندما تغيب عنا كل يوم ، وإنما تغيب عنا وتشرق على غيرنا ، إلا إذا أمكن الجمع ، ولا يؤخذ بأحاديث الآحاد الصحيحة السند في العقائد لأنها ظنية باتفاق العلماء والعقلاء والله تعالى يقول : [ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً ]( النجم : 28 ) ومثلها آيات في التشنيع على الكافرين باتباع الظن .

وإذا كان القرآن لا يثبت إلا بالتواتر المفيد للقطع ، وكان كون الآية منسوخة فرع كونها آية ، كان لنا بل علينا أن لا نصدق بأن كون هذا القول آية منسوخة إلا إذا روي ذلك بالتواتر من أول الإسلام كما روي القرآن ، وليس فيما زعموا أنه قرآن نسخت تلاوته شيء متواتر .

وهذا الذي رووه من حديث : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا ) مروي عن أبيّ بن كعب وروي أيضًا من حديث أبي أمامة عن خالته العجماء وعن عمر رضي الله عنه , وليس هذا من التواتر في شيء ، وكذلك الأثر الذي فيه : ( لو كان لابن آدم واد لابتغى إليه ثانيًا ) …الخ ، وفي رواية : ( لو كان لابن آدم واديان ) …الخ ، فهو موقوف على أبيّ ، فإن سلمنا أن السند إليه صحيح فأين التواتر الذي لا يكون إلا برواية جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب ؟

وجملة القول : أنه لم يرو في هذا المقام حديث صحيح السند إلا قول عمر في الشيخ والشيخة إذا زنيا ، وهو من رواية الآحاد ، ولذلك خالف الخوارج وبعض المعتزلة في الرجم ولم يكفرهم أحد بذلك ..وأنا لا أعتقد صحته ، وإن روي في الصحيحين ، فمن أنكر عليّ من المقلدين ذلك فليكتب إليّ لأسرد له عشرات من أحاديث الصحيحين لم يأخذ بها أئمته ، وفقهاء مذهبه وسائر المذاهب الذين لا ينكر على أحد منهم شيئًا ، وحجتي واضحة وهو أن المقام مقام إثبات القرآن , وطريق إثباته التواتر بالإجماع , فلو تواترت الرواية عن عمر أو غيره وأجمع عليها ؛ لقلت بأن عمر قال ذلك ، والأحاديث الصحيحة الصريحة المسندة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم التي خالفها الفقهاء كثيرة وهي في الأعمال التي يجب أخذها من أحاديث الآحاد بالإجماع , وعدم اعتقاد صحة هذا الحديث لا يترتب عليه ترك مشروع , ولا إثبات خلافه , فلا ضرر فيه ، وإنما الضر في ترك ما تركوه .

ولعلك قائل يقول :ما هو جواب مثبتي هذا الضرب من النسخ , فأقول : قال السيوطي في الإتقان ما نصه :  ( الضرب الثالث نسخ تلاوته دون حكمه , وقد أورد بعضهم فيه سؤالاً وهو : ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم ؟ وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها ؟ وأجاب صاحب الفنون بأن ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به , فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام , والمنام أدنى طريق الوحي ) اهـ ، وهو كما ترى لا قيمة له فإن الوحي للأنبياء كله قطعي ، وبذل النفوس هنا لا معنى له .

والأحكام التي رويت لنا عن الآحاد فأفادت الظن كانت يقينية عند الذين سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم , فإذا كانوا سمعوا الآية من النبي ، ثم فرضنا أنه أمرهم بتركها وعدم قراءتها مع بقاء العمل بها ، أفلا يقال ما هي حكمة ذلك بالنسبة إليهم وإلى من بعدهم .