المقومات الحضارية في الإسلام تعني جملة أمور هي :

أولا: العلم، الذي هو أساس كل الحضارات، وهو في الإسلام يحتل مكانة كبرى فطلبه فريضة، والتفرغ له عبادة، والبحث عنه جهاد، وتعليمه قربة، وهو مفتاح الإيمان، ودليل العمل، ونور الطريق، وسبيل الجنة (إنما يخشى الله من عباده العلماء) به يهتدي الضالون، ويتفاضل المهتدون (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).

وإذا كانت بعض الأديان قد وقفت ـ أو وقف رجالها ـ موقف المعارضة أو التوجس من العلم. فالإسلام برئ من مثل هذه التهمة. فالعلم فيه دين، والدين فيه علم، وقد انطلق أشهر علمائه في الطبيعة والكيمياء والفلك والطب والجبر وغيره من الدين، فكان خير دافع لهم إلى الإتقان، وخير مانع لهم من الطغيان.

وحسبنا أول سورة نزلت في قرآننا نوهت بالقراءة وهي مفتاح العلم (اقرأ باسم ربك الذي خلق).

وثاني سورة في ترتيب نزول السور نوهت (بالقلم) أداة تسجيل العلم ونقله من جيل إلى جيل، ومن أمة إلى أمة. وهي التي يقول فيها القرآن: (ن. والقلم وما يسطرون) فأقسم الله فيها بالقلم، وفي ذلك تشريف أي تشريف.

كما أشار القرآن إلى أن من أثر العلم: اختصار الزمن، وطي المسافات، وتقريب البعيد، كما في قصة سليمان مع عرش بلقيس، حيث استطاع (الذي عنده علم من الكتاب) (سورة النحل) أن يحضر العرش في لمح البصر، وهو ما عجز عنه عفريت الجن، مما دلنا على أن الإنسان بقوة العلم يستطيع أن يتفوق على قوة الجن، برغم ما أوتوا من قدرات وطاقات.

ثانيا: عمارة الأرض، بكل ما تحمله كلمة (العمارة) من معان، ويدخل فيها الزراعة والغرس والبناء والصناعات المختلفة، التي اعتبر فقهاء الإسلام تعلمها وإتقانها فرض كفاية على المسلمين، على معنى أنهم يسألون عنها مسئولية تضامنية، فإذا وجد في بلد من يكفي لتغطية حاجاته، وسد ثغراته بحيث يكتفي المجتمع المسلم بأبنائه اكتفاء ذاتيا، لا يجعله عالة على غيره، فقد سلم المجتمع كله من الإثم والحرج، وإلا أثم الجميع، كل على قدر ما أوتي من قدرة وسلطة.

لسنا في حاجة إلى أن نذكر الأدلة على عناية الإسلام بعمارة الأرض، فما أحسب مسلما له أدنى قراءة في المصادر الإسلامية يجهل هذا. وأكتفي هنا بما ذكره الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه القيم “الذريعة إلى مكارم الشريعة” حيث اعتبر “العمارة” أحد المقاصد الأساسية من خلق الله للإنسان كالعبادة والخلافة، يقول في ذلك:

“إن كل نوع أوجده الله تعالى في هذا العالم، أو هدى بعض الخلق إلى إيجاده وصنعه، فإنه أوجد لفعل يختص به، ولولاه لما وجد، وله غرض لأجله خص بما خص به، فالبعير إنما خص بذلك ليحملنا وأثقالنا إلى بلد لم نكن بالغيه إلا بشق الأنفس، والفرس ليكون لنا جناحا نطير به، والمنشار والمنحت لنصلح بهما الباب والسرير ونحوهما، والباب لنحرز به البيت والفعل المختص بالإنسان ثلاثة أشياء:

1. عمارة الأرض المذكورة في قوله تعالى: (واستعمركم فيها) (سورة هود:61) وذلك لتحصيل ما به تزجية المعاش لنفسه ولغيره.

2. وعبادته المذكورة في قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) (سورة الذاريات:156)، وذلك هو الامتثال للباري عز وجل في أوامره ونواهيه.

3. وخلافته المذكورة في قوله تعالى: (ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) (الأعراف:129) وغيرها من الآيات.

ومن هنا يكون كل عمل لتنمية المجتمع وزيادة إنتاجه عبادة وقربة إلى الله. فمن زرع زرعا أو غرس غرسا، فله بكل ما يؤكل منه صدقة ما ظل الناس ينتفعون به.

وكل عمل يؤديه المسلم بإتقان، يجعله أهلا لمحبة الله تعالى ومن أحبه الله كان سمعه الذي يسمع، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها وأي مسلم لا يعرف هذا الحديث: “إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملا أن يتقنه” (رواه البيهقي وهو حسن).

بل إن الإتقان ـ أو الإحسان ـ للعمل ليعد في نظر الإسلام فريضة مكتوبة على المسلم كما كتب عليه الصلاة والصيام “إن الله كتب الإحسان على كل شيء” (رواه مسلم).

وإن أمة لديها مثل هذه التعاليم لا ترضى أن تعيش في دائرة التخلف فترى غيرها يتقدم وهي في ذيل القافلة، وكان ينبغي أن تكون في مأخذ الزمام، وقد بوأها الله مكانة الشهادة على الأمم (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) (سورة البقرة:143).

ثالثا: المال، باعتبار المال نعمة، يجب المحافظة عليها، والقيام بشكرها وقد سماه القرآن خيرا في آيات كثيرة، كقوله عن الإنسان: (وإنه لحب الخير لشديد) (سورة العاديات:8).

فينبغي للمسلم أن يسعى في كسب المال في حله، وإنفاقه في محله، وعدم البخل به على حقه. كما ينبغي أن يعمل على تنميته بعد كسبه.

والقرآن يعتبر المال قواما لحياة الناس، ولهذا نهى عن تمكين السفهاء من المال. ولو كان مالهم حسبما تنصعقود الملكية، لأنه في النهاية مال المجتمع، وثروة الأمة (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) (سورة النساء:5).

وإذا كانوا ينقلون عن المسيح عليه السلام قوله: إن الغني لا يدخل ملكوت السموات حتى يدخل الجمل في سم الخياط! فالمسلمون نقلوا عن نبيهم قوله: “نعم المال الصالح للمرء الصالح”. كما نقلوا من أحاديثه ما يشير إلى أن الغني الشاكر أفضل درجة من الفقير الصابر، لأنه يستطيع بالمال أن يتصدق ويعتق وينفق في سبيل الله. ويجاهد بماله، ما لا يستطيعه الفقير، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وإذا نقلوا عن المسيح قوله لمن أراد أن يدخل في دينه: “اذهب فبع مالك واتبعني” فقد نقلنا نحن عن رسولنا أنه دعا لخادمه أنس بن مالك ـ فيما دعا له ـ أن يكثر الله ماله. وقال: ما نفعني مال كمال أبي بكر.

رابعا: الصحة، فتكاليف الدين وأعباء الدنيا، لا يقوم بها المرضى والضعفاء إنما يقوم بها الأصحاء الأقوياء. والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.

ولأول مرة يسمع الناس من دين أن المحافظة على الجسم واجب، وأن حرمانه من حقه في الراحة أو الطعام والشراب غير جائز، ولو كان ذلك في سبيل المبالغة في التعبد. وهذا ما جعل الرسول الكريم يقول لمن وجد لديهم النزعة إلى إرهاق البدن لتصفو الروح: “إن لبدنك عليك حقا”.

وهو يحرم أشد التحريم المسكرات والمخدرات، حفاظا على صحة البدن والعقل معا. ويلعن كل من ساهم في ذلك من قريب أو بعيد.

ونراه يعني بالوقاية قبل العلاج، فيحظر البول والتغوط في الطريق والظل والماء، ويعتبر ذلك من أسباب اللعنة على من فعله.

ونراه يقر سنة الله في العدوى، وإن كانت الأشياء لا تعدى بذاتها، بل بمشيئة الله تعالى، فيقول: “فر من المجذوم فرارك من الأسد” بل يقرها في الحيوانات فيقول: “لا يوردن ممرض على مصح” والممرض صاحب الإبل المراض بالجرب ونحوه، والمصح صاحب الإبل الصحاح، فلا يجوز أن يخلط الأول إبله بإبل الثاني، فيعديها.

ونراه يقر بمبدأ العزل الصحي في حالات الوباء، كما في الحديث: “إذا دخل الطاعون في بلد وأنتم فيه فلا تخرجوا منه، وإذا كنتم خارجه فلا تدخلوا فيه”.

وهو بعد ذلك يأمر بالتداوي “فإن الذي خلق الداء خلق الدواء”، أخذا بما أقام الله عليه الكون من أسباب تفضي إلى مسبباتها بقدر الله تعالى، فالتداوي ليس معارضة للقدر، بل هو دفع للقدر بالقدر.

وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت أدوية نتداوى بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟

قال: هي من قدر الله”.

فالمرض من قدر الله، والدواء من قدر الله، والمؤمن يدفع قدرا بقدر، كما يفر من قدر إلى قدر، كما قال عمر: نفر من قدر الله إلى قدر الله!

وقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم أبواب الأمل أمام الأطباء والمرضى، حين قال: “ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله”.

وهذا يدل على أنه ليس هناك مرض يستعصى على الشفاء، وفق سنة الله إلا ما استثناه الحديث وهو (الهرم). والمطلوب إذن هو: المزيد من البحث، ومقاومة اليأس.

خامسا: الاستمتاع بالطيبات والزينة، فليس الإسلام كالأديان والفلسفات التي بالغت في التنفير من الدنيا، والتزهيد في طيبات الحياة وزينتها، وجعلت الاستمتاع بها يبعد عن الله، ويقرب من الشيطان، وقست على الجسم من أجل ارتقاء الروح، حتى اعتبر بعضها القذارة عبادة، والنظافة رجسا من عمل إبليس اللعين!

أجل، الإسلام ليس كبوذية الهند، ولا مانوية فارس، ولا رواقية الإغريق، ولا رهبانية النصارى، ولا غيرهم.

إنما هو دين الحياة، جاء يحل للناس الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، وينكر أشد الإنكار على الذين حرموا على الناس طيبات ما أحل الله، ويقول في ذلك كتاب الإسلام: (يا بني آدم خذوا زيتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين، قل: من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟) (سورة الأعراف:32).

ويعتبر القرآن طيبات الرزق من مظاهر ربوبية الله تعالى، ودلائل قدرته ورحمته (الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء، وصوركم فأحسن صوركم، ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين) (سورة غافر:64).

كما اعتبر القرآن ذلك من دلائل تكريم الله لبني الإنسان (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) (سورة الإسراء:70).

وما كان الله ليمن على الناس بخلق الطيبات وجعلها من رزقهم ثم يحرمها بعد ذلك عليهم!

ويدخل في إطار هذه الطيبات:

أ. طيبات المأكل والمشرب (يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين. وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) (سورة المائدة:87،88).

ب. طيبات الملبس والزينة (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوءاتكم وريشا، ولباس التقوى ذلك خير) (سورة الأعراف:26).

ج. طيبات المركب (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون).

د. طيبات المسكن (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا) (سورة النحل:80).

وفي الحديث “ثلاث من السعادة..” وعد منها: “المسكن الصالح” ومن دعائه صلى الله عليه وسلم:

“اللهم وسع لي في داري”.

هـ. طيبات الاستمتاع بالجنس الحلال: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم) (سورة البقرة:223)

(أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، هن لباس لكم وأنتم لباس لهن).

و. طيبات اللهو والترفيه: فإن القلوب تمل كما تمل الأبدان، ولهذا تحتاج إلى الترويح بشيء من اللهو، ليقويها على الجد، وتقدر به على مواصلة المسيرة، فإن القلب إذا أكره عمى.

وتتأكد مشروعية اللهو في المناسبات السارة كالأعياد والأعراس، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم

أذن للحبشة أن يلهو بحرابهم في مسجده الشريف في يوم عيد، حتى تعلم اليهود أن في ديننا فسحة،

وأنه بعث بحنفية سمحة.

ز. وحتى أنه عليه الصلاة والسلام أنكر أن تزف العروس بلا لهو ولا غناء يشيع البهجة والسرور، ويوسع قاعدة الإعلان عن الحدث السعيد.