العفو والصفح من مكارم الأخلاق :

جعل الله عز وجل العفو والصفح من مكارم الأخلاق، وأعطى على ذلك أجرا عظيما، فديننا الحنيف يأمرنا أن نعطي من حرمنا ، وأن نعفو عمن ظلمنا ، وأن نبتسم في وجه من عبس في وجوهنا ، وليس ذلك لأن ديننا يغرس فينا الضعف والهوان أو الذلة والمسكنة ، لا ولكنه يلفت نظرنا إلى أن الحب سلاح يمتص الكره من قلوب من يسيء إلينا ، وإلى أن العطاء خير ما نداوي به بخل علينا، فكل ذلك يحصل بالمعاملة الحسنة .

ثم إن ديننا يريد منا أن لا نعطي أو نمنع إلا لله ، ولا شك أننا حين نعطي من يسيء إلينا ، أو نكرم من يكرهنا لا شك أننا نصنع ذلك لننال ما عند الله عز وجل ، وليس لنرضي به حظوظنا .

إن الإحسان إلى من أحسن إلينا حق له وواجب علينا مقابل إحسانه ، وليس تفضلا منا عليه ، أما الإحسان إلى المسيء فهو الصلة التي أمر الله عز وجل بها .

لكن الإسلام يعلم أن من المسلمين من تمنعه نفسه عن الخير، ومن يتعجل حظه من الانتقام ليشفي غليله، ناسيا فضل الله عز وجل في الصفح ، فلذلك شرع رد الظلم ؛ فقال الله تعالى : (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ) فأجاز في هذه الآية للمظلوم أن ينتصر بقدر ما ظلم، وبمثل ما ظلم، فقال العلماء: إن هذه الآية وإن كانت تفيد الانتقام إلا أنها تدل على أن العفو أفضل، وذلك لأنها شرطت لجواز الانتقام أن يكون العقاب بمثل ما عوقب به المظلوم ، فإن زاد فقد بغى، وأصبح مدينا بعد أن كان دائنا، ومن ذا الذي يملك أن يعاقب بمثل القدر الذي عوقب به، إن الأمر يحتاج إلى مقياس دقيق حتى لا يتحول المظلوم إلى ظالم، ولذلك كانت السلامة في ترك المعاقبة.

المسلم بين أحوال ثلاثة عند الظلم والإساءة :

من وقع عليه السب والأذى والظلم كان بين ثلاثة خيارات:

الأول: أن يعفو ويصفح، لينال أجر المتقين، كما قال تعالى ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين. ) [آل عمران:133،134]

وقال تعالى: ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) [الشورى:40] وقال: ( وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) [النور:] [النور:22].

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ” وما جاء في معناها من النصوص كثير.

الثاني: الإمساك عن العفو والصفح ليلقي المذنب ربه بما اقترف من الإثم.

لكن – كما قال بعض السلف – ما يفيدك أن يعذب الله أحداً لأجلك؟ مع ما يفوتك من أجر العفو، لو عفوت.

الثالث: فهو المقاصة، ومقابلة السيئة بمثلها دون تجاوز. لقوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله) [الشورى: 40] وقوله: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعاً عليماً إن تبدوا خيراً أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفواً قديراً ) [النساء: 140،149] وقوله تعالى: ( ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) [الشورى:41-43]

ولا شك أن المقام الأول هو أعلى المقامات، وأفضل الخيارات، لما جاء فيه من الأجر والثواب، ومما يؤكد ذلك أن الآيات التي أفادت إباحة المقابلة بالمثل قرنت بالدعوة والترغيب في العفو ، والعفو معناه تحمل الإساءة والصبر على آثارها في النفس أو العرض أو غيرهما، رجاء ثواب الله وحسن العاقبة لديه، وعليه فمن اختار مقام العفو والصفح لم يطلب الاعتذار. انتهى.

وأما  قوله تعالى(مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً) (النساء : 79 ) فخير ما حملت عليه الآية أن الحسنة ما يسر الإنسان من النعمة ، والسيئة ما يسوءه من الشدة والنقمة .