جاء في الحديث الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا ” متفق عليه.
وقد ورد في معنى الحديث أحاديث أخر، كلها تؤيد هذا المعنى، منها ما رواه مسلم والترمذي عن أبي أمامة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: ” يا ابن آدم، إنك إن تبذل الفضل خير لك، وإن تمسكه شر لك .

وهل هناك أصدق من كتاب الله الذي يقول في الحث على الإنفاق والانتصار على دواعي البخل: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم) (البقرة: 268) . ويقول تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين). (سبأ: 39).

قال ابن كثير في تفسيرها: أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم الله به وأباحه لكم، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب . كما ثبت في الحديث، ويقول الله تعالى: ” أنفق أنفق عليك “.

وقد يلتبس على أحد حصر الخلف والتلف في دائرة المال . والأمر أعمق من هذا وأوسع، فالخلف هو العوض الذي يكافئ به الله الغني الكريم عبادة المنفقين، وهو أكرم من أن يجعله مقصورًا على المال فقط، بل قد يكون صلاحًا في الأهل، أو نجابة في الأولاد، أو عافية في البدن أو بركة في القليل، وقد يكون أمرًا معنويًا خالصًا، كهداية إلى حق، وتوفيق إلى خير، وانشراح في الصدر، وسكينة في القلب، ومحبة في نفوس الخلق، وشعور بحلاوة الإيمان ورضوان الله تعالى، فضلاً عما أعده الله في الآخرة لعباده الصالحين مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر . (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون). (سورة السجدة: 17).

إن مكافأة الله المنفقين في سبيله لأعظم من أن تقتصر على الحياة الدنيا (والآخرة خير وأبقى) (سورة الأعلى: 17) وأرفع من أن تقتصر على الرزق المادي وحده، والعارفون يعلمون أن الأرزاق الروحية أنفس وأخلد من كل ما ترنو إليه الأبصار من متاع الدنيا وموازين الله ورسوله في تقدير الأشياء ليست كموازين أهل الدنيا . اقرأ هذه الآيات :.
(قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون) سورة يونس: 58)، (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) (سورة طه: 131)، (المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابًا وخير أملاً) (سورة الكهف: 46) . (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) (سورة الشورى: 20) …

وقد جاء في عدة أحاديث بيان أفضل الخير ومنها :.
ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ” (رواه مسلم عن عائشة)، ” لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها . (رواه البخاري ومسلم عن أنس).

وإذا اتضح لنا معنى دعاء الملك: ” اللهم أعط منفقًا خلفًا ” بان لنا معنى دعاء الآخر: ” اللهم أعط ممسكًا تلفًا “.
فالتلف هو العقوبة التي يجازي الله بها الممسكين، وهو لا ينحصر في خسارة المال أيضًا، ولكنه قد يتناول البدن، أو الأهل أو الولد أو العلاقة بالناس … إلخ . وقد يكون قلق النفس، وشك القلب، وضيق الصدر مما يفسد على المرء حياته، ويحرمه الاستمتاع بماله الوفير، ويحييه في عذاب مقيم . فضلاً عما ادّخر الله لمثله في الآخرة (ولعذاب الآخرة أشق، وما لهم من الله من واق) (الرعد: 34) …

وفي بعض الأحاديث ما يفيد أن دعاء الملكين مطابق لما جاء في القرآن من قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) (الليل: 5 – 10) فالتيسير لليسرى هنا مقابل لقول الملك: أعط منفقًا خلفًا . والتيسير للعسرى مقابل لقول الآخر: أعط ممسكًا تلفًا . مما يدل على أن الأمر أوسع وأكبر من الخلف في المال والتلف فيه.