القرعة جائزة شرعًا؛ لأنها تُعِين، لا تُحرِّم ولا تُحلِّل وهي معروفة من قديم الزمان، ومن حوادثها.
أ ـ القُرْعة فيمن يَكفُل مريم، كما قال تعالى: (وما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) (سورة آل عمران : 44).
ب ـ القرعة فيمن يَرمُونه من السفينة التي رَكِبَها يونس . قال تعالى: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ) (سورة الصافات : 141).
جـ صحَّ أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا أراد سَفَراً أقْرَع بين نسائه، فأيَّتُهن خَرَج عليها السهم سافَرَ بها.
د ـ وروى البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عرض على قوم اليمين فأسرعوا، فأمر أن يُسْهِم بينهم في اليمين أيُّهم يَحْلِف.
هـ ـ جاء في السنن ومسند أحمد أنَّ رجلين تداعَيا في دابة ليس لواحد منهما بيِّنة، فأمرهما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يُسهَما على اليمين، أحَبّا أو كَرِهَا .
و ـ وفيهما أيضًا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال “إذا كَرِهَ الاثنان اليمين أو استحبّاها فلْيَسْتَهِما عليها”.
ز ـ وجاء في السنن عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أن رجلين اختَصما إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مواريث بينهما دَرَسَتْ، ليس بينهما بينة، فقال “إنكم تَختصمون إلىَّ ، وإنما أنا بَشَرٌ، ولعل بعضكم ألْحَن بحجته من بعض، وإنما أقضِي بينكم على نحو ما أسْمع، مَن قَضَيتُ له من حقِّ أخيه شيئًا فلا يأخُذْه، فإنما أقْطَع له قطعة من النار يأتي بها أسطامًا في عنقه يوم القيامة” فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “أما إذا قُلتُما فاذهَبا فاقتَسما ثم توخَّيَا الحقَّ ثم اسْتَهِما عليه، ثم لْيَتَحَلَّلْ كلٌّ منكما صاحبه”. الأسطام جمع سِطَام وهو حدُّ السيف.
ح ـ وأقْرَع سعد بن أبي وقاص يوم القادسية بين المؤذنين ” بدائع الفوائد لابن القيم”، هذا وهناك قرعة تُجرَى بين المتسابقين لأخذ جائزة، أو لإعطاء هدايا لمن يشترون بضاعة بثمن معين من محل تجارة، أو لأي غرض مباح، وهذه حلال لا حرمة فيها.
جاء في تفسير القرطبي (ج 4 ص 86) أن القرعة أصل في شرعنا لكل من أراد العدل في القسمة، وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستويين في الحجة، ورَدَّ العمل بالقرعة أبو حنيفة وأصحابه ورَدُّوا الأحاديث الواردة فيها وزَعموا أنها لا معنى لها وأنها تُشبه الأزلام التي نَهَى الله عنها، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة أنه جَوَّزها، وقال: القرعة في القياس لا تَستقيم، ولكنّا تركنا القياس في ذلك وأخَذْنا بالآثار والسنة، قال أبو عبيد: وقد عَمِل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ونبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال ابن المنذر: استعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يُقسَم بين الشركاء، فلا معنى لقول مَن رَدَّها.
وقد تَرجَم البخاري في آخر كتاب الشهادات “باب القرعة في المشكلات” وقوله الله ـ عز وجل ـ (إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهُمْ أيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) وساق حديث النعمان بن بَشِير في مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استَهمُوا على سفينة. وحديث أم العلاء الذي جاء فيه: أن عثمان بن مظعون طار لهم سهْمه في السُّكْنَى حين اقتَرعت الأنصار سُكْنَى المهاجرين ، وحديث عائشة : كان النبي إذا أراد السفر أقرع بين نسائه، فأيَّتهن خرج سهمها خرج بها.
ثم يقول القرطبي: وقد اختَلفتِ الرواية عن مالك في ذلك أي في القرعة بين النساء في السَّفَر فقال مرة بالقرعة لحديث عائشة ، وقال مرة: يُسافر بأوفَقهن له في السفر، ثم ذَكَر القرطبي حديث “لو يعلم الناس ما في النداء ـ الأذان ـ والصف الأول ـ في صلاة الجماعة ـ ثم لم يجدوا إلا أن يَستَهِموا عليه لاستَهَموا” أي أجْروا القرعة ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ثم تحدَّث عن رأي أبي حنيفة في شأن زكريا وأزواج الرسول بأن القرعة كانت مما لو تراضَوا عليه دون قرعة لَجَازَ، قال ابن العربي: وهذا ضعيف لأن القرعة إنما فائدتها استخراج الحكم الخفي عند التَّشاحِّ ـ التنازع ـ ولا يَصِح لأحد أن يقول: إن القرعة تُجرَى مع موضع التراضي، فإنها لا تكون أبدًا مع التراضي، بل تكون فيما يَتَشاحُّ الناس فيه ويُضَنُّ به.