القرآن هو المعجزة الخالدة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ومن ثم فالنظريات العلمية الحديثة لا يُستدل بها على صدق القرآن بل يستدل بالقرآن على صدق هذه النظريات إذا أصبحت حقائق ثابتة تصل إلى درجة اليقين.
والدعوة إلى تفسير القرآن تفسيرا علميا أجازها فريق على إطلاق، وفريق منعها على إطلاق، وموقف وسط بين الفريقين ذهب أنصاره إلى أن ما يساعد على كشف أسرار التشريع من العلوم لا بأس به، بكل ما يوصل إلى الإيمان بالله، وإدراك سر الوجود، بل هو مطلوب. شريطة أن يكون التفسير بالمُقررات الثابتة، لا بالنظريات التي ما زالت قيد البحث ومحل اختلاف العلماء، وعلى ألا يكون هناك تعسُّف في التأويل وتحميل الألفاظ معاني لم توضع لها، ومن قواعد المنهج السليم لتفسير القرآن أن تستقصي آياته في الموضوع الواحد فهي تُفسر بعضها بعضًا، والخطأ الذي يقع فيه كثير من الباحثين الآن ـ وكثير منهم غير أهل للتفسير ـ أساسه عدم مراعاة هذا المنهج فهم يَبْترون الآية بَترًا ويقطعونها عن سابقتها ولاحقتها ويفسرونها كما يريدون.

يقول فضيلة الشيخ عطية صقر – رحمه الله تعالى – رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقا:

إنَّ مهمة القرآن هي الإعجاز والهداية، و ما فيه من حقائق عِلْمية تدعو إلى النَّظر والتأمل، وزيادة في الإيضاح.

وهذه القضية ثار حولها الجدل والنِّقاش، وانقسم الناس فيها فريقين:
(أ) فريق يقول: نعم في القرآن تُوجد العلوم والمُكتشفات الحديثة.ونحن في حاجة إلى تفسير علمي، بمعنى استخلاص هذه المحدثات من ألفاظ القرآن، وحَمْل الألفاظِ عليها. واستند هذا الفريق في رأيه إلى ما يأتي:

1 ـ أن الله تعالى قال: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيءٍ) (الأنعام: 38).
أي ليس في الحياة شيء إلا وهو موجود في القرآن. فَذُكِرَت فيه الميكروبات والكهرباء والذَّرة والصواريخ والطائرات وغيرها.
ونُوقش هذا الدليل بأن المراد بالكتاب هو اللوح المحفوظ الذي أثبت الله فيه مقادير الخلق، ما كان منها وما يكون، حسب النظام المُعَبَّر عنه بالسُّنن الإلهية. أو هو علم الله المحيط بكل شيء الثابت فيه كل معلوم، وإذا أريد بالكتاب القرآن فليس لفظ الشيء على عمومه، بل المراد به الشيء الذي هو موضوع الدَّين، وهو الهداية التي من أجلها نزل القرآن، فالعموم في كل شيء بحسبه.

2 ـ كما استند إلى أن نشر الإسلام في هذه الأيام يحتاج إلى التحدُّث عنه بأسلوب العصر وطرائق فهمه، لبيان تجاوب الدين والقرآن مع الحياة في كل أطوارها.

ونوقش بأن نشر الإسلام لا يتوقف على ذلك، فأصول الهداية فيه، والنصوص الدالة على النظر والبحث وتقديس العقل كافية في بيان تجاوبه مع أرقى الحضارات وأزهى العصور.
وبهذا نرى أن حُجَّة هذا الفريق واهية أو فيها مناقشة تضعف الاستدلال بها على المقصود.

(ب) والفريق الآخر يقول: ليس القرآن كتاب تعليم وتسجيل لمكتشفات العصور بأشخاصها، ولا يحتاج إلى أن نحمل ألفاظه على أسلوب العصر ونضمنها نظرياته وعلومه.
وحجتهم في ذلك:
1 ـ عدم حاجة الشريعة في فهم كتابها وتعرُّف مبادئها، إلى العلوم الكونية والرياضيات وما إليه. وحمل ألفاظ القرآن عليها فيه تعسُّف وتحميل لها لما لا تطيق.

2 ـ أن القرآن مُوجَّه أولاً على من نزل فيهم وهم العرب، وليس لهم عهد بهذه العلوم التي لم تعرفها الدنيا إلا بعد قرون، فإذا قصد القرآن إليها وآياته لا تفهم إلا بالوقوف عليها، كان كلامًا غير مطابق لمُقتضى الحال، وحاشاه أن يكون كذلك، فوجب أن نقف بعباراته عند فهم العرب الخُلَّص، ولا نتجاوز ما ألَّفوه من علومهم، يقول الشاطبي في كتابه “الموافقات ج 2 ص 52” : ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها وهم العرب ينبني عليه قواعد، منها: أن كثيرًا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كلَّ علم يُذْكَر للمتقدمين أو المتأخرين، من علوم الطبيعيات والتعاليم والمنطق وعلم الحروف وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها.

وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح، ولهذا فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن وعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى سوى ما تقدَّم من أحكام… وما يلي ذلك. ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يُقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا.

3 ـ أن النظريات العلمية عُرضة للتغيير والتبديل، فإذا حملنا عليها ألفاظ القرآن كان فهم آياته عُرضة للتغيير والتبديل مما يبعث على الشك، ويؤدي إلى البلبلة والاضطراب.
وقد يناقش الدليل الأول بأن عدم احتياج فهم الشريعة وتبليغها إلى العلوم لا ينافي أنها موجودة في القرآن، ويكون الغرض منها الشرح والبيان والإيضاح، ويُناقش الدليل الثاني بأن القرآن ليس للعرب فقط ولا لعصرهم السابق، بل هو لكلِّ الناس ولجميع العصور، فلا مانع أن يكون فيه من المعلومات مالا يعرفه العصر الأول، وسيعرف فيما بعد، ولعل ما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّه الْحَقُّ) (فصلت : 53) وعموم رسالة الإسلام لا يجوز معها قَصْر فهم القرآن على المألوف عند العرب، فليكن فيه قدر يتضح سره بما ينكشف بعدُ من علوم كونية ونفسية، وذلك لزيادة الإيضاح لأصل الدليل على صدقه، فهو صادق بإعجازه وكفى بالله شهيدًا على ذلك: (أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّه عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيد).

ويناقش الدليل الثالث، بأن حَمْلَ الألفاظ القرآنية على النظريات التي لم تثبت بعد لا يجوز أبدًا، وإذا حُملت فإنما يكون على الحقائق العلمية الثابتة؛ ذلك لأن كلام الله حَقٌّ لا يُفسر بغير الحق، وهو ثابت لا يفسر بغير الثابت، فاللائق هو توضيح الثابت بما ثبت، وليس ذلك إلا في الحقائق العلمية المُقررة وهذا كله بشريطة عدم التعسُّف في التأويل، بل يُترك لفظ القرآن على طبيعته القابلة لكل فهم دفعًا للعقل إلى التفكير والبحث.

ـ والرأي الذي أميل إليه يتلخص فيما يلي:-
(أ) أن القرآن فيه بعض الحقائق العِلمية، وقد ذُكرت للعِبْرة والْمَوْعظة والتأمل ، لا على أنها معلومات للاعتقاد والتكليف والتعليم، وقد عبَّر الله عنها بالألفاظ العربية والأسلوب المعجز. وما جاء فيه من المقررات العلمية حق؛ لأنه كلام الله، سواء عَرفها الناس عند نزولها أم لم يعرفوها، وعدم علمهم بها لا يغض من شأن القرآن، فهو ميسر للذكر يستطيع كلُّ إنسان أن يأخذ منه القدر الكافي لهدايته، مهما كان مستواه العلمي.

(ب) أن ألفاظ القرآن دقيقة مُحْكَمة؛ لأنها صنعُ الله الذي أتقن كل شيء، وأن هناك لونًا من ألوان إعجازه هو الحديث عن بعض المسائل العلمية التي لا عهد لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالذات بعلمها، ولا عهد للعرب الذين ووجهوا بالقرآن بها، ثم ثبت بعد ذلك صدق هذه المسائل، وذلك للدلالة على أن القرآن ليس من عند محمد، بل هو من عند الله العليم الخبير ، وبالتأمل في بعض هذه التعبيرات نجد أنها مُحايدة في الأمور التي يختلف الناس عليها، ولم يصلوا بعد إلى معرفة أسرارها، وذلك ليدع مجال الفكر مفتوحًا للباحثين، ليصلوا إلى آخر شوط ممكن، وكلَّما جدَّ البحث بشخص نظر إلى الآية فرآها كأنها معه في كل خطواته تُشجعه ولا تُصرح على الأقل بكذِبه، أو إخفاقه، فيُغريه ذلك على متابعة البحث إرضاءً لشهوة العقل وحبِّ الاستطلاع. حتى إذا وصل إلى الحقيقة العلمية الثابتة وجد الآية معه أيضًا لم يُصبها أي تغيُّر في موقفها المُحايد الذي لا ينحاز إلى باحث معين في أولى خطوات النظر وفى وسطها حتى يبلغ النهاية . وهو بوصوله إلى الحقيقة سيزداد إيمانًا بصدق القرآن وأنه حق من عند الله، لا من عند محمد الذي لم يتعلم أساليب البحث ليصل إلى هذه النتيجة، وإن لم يصل إلى الحقيقة العلمية بعد طول البحث لا يجوز أن يشك في القرآن، بل الأجدر أن يتهم نفسه، ويعيد النظر في أسلوب بحثه علَّ فيه حلقة مفقودة، أو مُقدمة لم تثبت لتستطيع أن تنتج نتيجة صادقة.

وحياة الألفاظ القرآنية في كثير من مواضعها هو الذي أوجد النشاط الفكري عند علماء الكلام في بعض المسائل الكلامية، حيث تكون الآية الواحدة، وكُلُّ يَدَّعي أنها تشهد لرأيه، وكذلك كان هذا الحياد سببًا في نشاط علماء الشريعة في استنباط الأحكام الفقهية.

(جـ) أن أسلوب القرآن مُطابق لمُقتضى الحال في خطابه للعلماء والعامة على السواء، على خلاف الكلام العادي للناس، فهو إما أن يخاطب به المستويات العالية باشتماله على الرمز والإشارة والكناية والاستعارة، وإما أن يُخاطب به العامة الذين لا يفهمون إلا الواضح المبسط من الكلام، ولو خوطبت إحدى الطائفتين بغير ما يليق بها لم يكن الكلام بليغًا، أما القرآن الكريم فهو وحده الذي يراه البلغاء أَوْفَى كَلامٍ بلطائف التعبير، ويراه العامة أحسنَ كلام وأقربه إلى عقولهم، فهو مُتعة الخاصة والعامة على السواء. كما قال سبحانه: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلِّذِكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكر) (سورة المقر: 17، 22، 32، 40).

يقول الراغب الأصفهاني في مقدمة تفسيره: أخرج تعالى مُخاطباته في حاجة خَلْقِه في أجلِّ صورة تشتمل على أدق دقيق؛ لتَفْهَم العامة من جلتها ما يقنعهم ويلزمهم الحُجَّة؛ ويفهم الخواص من أثنائها ما يوفي على ما أدركه فهم الحكماء، ومن هذا الوجه كلُّ من كان حظه في العلوم أوفر كان نصيبه من علم القرآن أكثر، ولذلك إذا ذكر تعالى حُجَّة إلى ربوبيته ووحدانيته أتبعه مرة بإضافتها إلى أُولِي العقل، ومرة إلى أُولِي العلم، ومرة إلى السامعين، ومرة إلى المتذكرين تنبيهًا على أن بكل قوة من هذه القوى يمكن إدراك حقيقة منها.

(د) أننا في حاجة إلى من يُفَسِّر لنا القرآن على ضوء المقررات العلمية لتتضح معانيه، ويؤمن بها الذين لا يرضون بغير هذا الأسلوب بديلاً
، فبمقررات علم الحياة والأجنة يمكن توضيح قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ .ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (سورة المؤمنون : 12-13)

وبمقررات علم الطب يتضح لنا معنى الأذى في قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَن الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذَى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)
(سورة البقرة : 222).

ويتضح سر التحريم لأكل الميتة والدم ولحم الخنزير والموقوذة والمتردية والنطيحة.. الوارد في الآية الثالثة من سورة المائدة فكل ما يساعد على كشف أسرار التشريع من العلوم لا بأس به، بكل ما يوصل إلى الإيمان بالله، وإدراك سر الوجود لا بأس به بل هو مطلوب.

وهذا كلُّه على شريطة أن يكون التفسير بالمُقررات الثابتة، لا بالنظريات التي ما زالت قيد البحث ومحل اختلاف العلماء. وعلى ألا يكون هناك تعسُّف في التأويل وتحميل الألفاظ معاني لم توضع لها، كما سيتضح من عرض الأمثلة الآتية بعد.

إن تفسير القرآن بالنظريات التي لم تثبت يُعد تفسيرًا بالرأي المَحْضِ، وقصره على رأي بالذات افتراء الكذب على الله. وفي ذلك خطورة كبيرة؛ لأنها تُخضع آيات القرآن للآراء الخاصة، الأمر الذي ضلَّ به كثير من الفِرق التي ظهرت في الإسلام، ولأنها تمنع صلاحية الإسلام العامة أن تكون لكلِّ البيئات والأجيال وأن تكون منارًا هاديًا لكل المفكرين، كما أنها تعرض القرآن للطعن فيه بالتكذيب إن جاء ما يثبت خطأ الرأي الأول الذي فُسِّر به.

والإنسان إذا لم يكن متمكنًا مما يقول ويرى لا ينبغي أن يحمل القرآن على جهله وسفهه، فهو حرم مقدس لا يقربه إلا العالمون الموقنون.

قال إبراهيم التيمي: سُئل أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ عن تفسير الفاكهة والأبِّ فقال: أي سماء تُظلني، وأي أرض تُقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم وقال أنس: سمعت عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قرأ هذه الآية ثم قال: كلُّ هذا قد عرفناه، فما الأبُّ؟ ثم رفع عصا كانت بيده وقال: هذا لعمرو الله التكلُّف، وما عليك يا ابن أم عمر ألا تدري ما الأبُّ. ثم قال: اتَّبعوا ما بُيِّن لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه (القرطبي ج 19 ص 223) .

وذلك كلُّه من وحي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ “اتقوا الحديث عليّ إلا ما علمتم، فمن كَذب على مُتَعمِّدًا فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار” رواه الترمذي عن ابن عباس. قال ابن عطية: ومعنى هذا أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله عز وجل فيتسوَّر عليه برأيه دون نظرٍ فيما قال العلماء ، واقتضته قوانين العلم كالنحو والأصول، وليس يدخل في هذا الحديث أن يفَسِّر اللغويون لغته والنحويون نَحْوَه، والفقهاء معانيه، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر، فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلاً بمجرد رأيه “القرطبي ج 1 ص 32” وعلى هذا من يُفَسِّر القرآن بنظرية غير ثابتة فهو يفسر برأيه على غير قوانين العلم والنظر، بخلاف من يفسره بهذه القوانين الثابتة، فهو يعمل عملاً مشروعًا يوضح ما في القرآن فقط لا يقصد به إثبات صدقه، فكفى بالله شهيدًا على صدقه.

إن من قواعد المنهج السليم لتفسير القرآن أن تستقصي آياته في الموضوع الواحد فهي تُفسر بعضها بعضًا، وخير ما فسرته بالوارد، فقد يكون العام أو المطلق أو المبهم ففي آية مُخصصًا أو مقيدًا أو مبنيًا في آية أخرى، وهكذا، على أن يراعي السباق والسياق في فهم المراد من الآية.

والخطأ الذي يقع فيه كثير من الباحثين الآن ـ وكثير منهم غير أهل للتفسير ـ أساسه عدم مراعاة هذا المنهج فهم يَبْترون الآية بَترًا ويقطعونها عن سابقتها ولاحقتها ويفسرونها كما يريدون، وهم لا ينظرون إلى مثل هذه الآية في موضع آخر من القرآن حتى يستعينوا بها على تفسيرها، فلهذا يُخطئون كثيرًا فيما يزعمون.

روى البخاري ومسلم أنه لما نزل قول الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمْ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام : 82) قال بعض الصحابة: يا رسول الله وأيُّنا لم يُلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ “ليس بذلك، ألا تسمع إلى قول لقمان (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) . فالظلم الذي نزلت به هذه الآية عُرِف المُراد منه بما نزل في الآية الأخرى، وهو الشرك.

ومن مظاهر الخطأ في التفسير لعدم اتباع هذا المنهج أن بعض الباحثين ـ ولا أقول المفسرين ـ أراد أن يُبْرهن على أن الأرض تتحرك وتسير وليست ثابتة، فأورد قوله تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) (سورة النمل: 88) فمرور الجبال كالسحاب دليل على أن الأرض تتحرك، هكذا يقول: وقد نَسي أن الآيات التي اكتنفت هذه الآية تتحدث عن النفخ في الصُّور وعن محاسبة الناس على حسناتهم وسيئاتهم، فالجو كلُّه في يوم القيامة سباقًا وسياقًا. وليس ذلك في عالم الدنيا. ونسي أيضًا أن الحديث عن ظاهرة مرور الجبال يوم القيامة ورد في آيات أخرى من سور القرآن قال تعالى: (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا . وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا. فَوْيلٌ يَوْمَئذٍ لِلمُكَذِّبِينَ) (سورة الطور : 9-11) وقال: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ . وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ..) (سورة التكوير: 1-3) والمقام كلُّه في يوم القيامة.

6 ـ وهذه بعض الكشوف العلمية التي حاول الكاتبون أن يستدلوا عليها بالقرآن:

أ ـ في غزو الفضاء قالوا: يدُل عليه قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَان) (سورة الرحمن : 33) فالسلطان هو العلم وبواسطته نفذ الإنسان من الأقطار. ويُرد عليه بأن هذه الآية تتحدث عن يوم القيامة، وتبيِّن قدرة الله على مُحاسبة كلٍّ من الإنس والجن ومجازاته لا يستطيع أحد أن ينجو منه إلا بسلطان، أي قدرة عظيمة أو مُلك قوي، وليس ذلك لأحد إلا لله، أو تتحدث عن القضاء بالموت على كل حي لا يهرب منه أحد فكل من عليها فانٍ، لا ينجو منه إلا بالسلطان المذكور وهو لا يملكه.

وقال ابن عباس في تفسيرها: إن استطعتم أن تَعْلموا ما في السموات وما في الأرض فاعْلَموه ولن تعلموه إلا بسلطان أي ببيِّنة من الله، ومعنى هذا أن الغيب لا يعلمه إلا الله، الذي يُطْلِع عليه من يشاء من عباده. فلو فُرض أن المراد بالسلطان هو العلم، كما يشير إليه قول ابن عباس، فإن هذه الآية ليست نصًا في الزعم الذي يقوله المتحدثون. وعلى ذلك لا تصح دليلاً لهم، على أنه لو كان ذلك صحيحًا فما المانع أن يُطلع الله بعض الناس على علوم الكون بسلطان العلم، ولكن هل نَفَذَ الإنس من أقطار السموات أيضًا، أو نَفذوا فقط ـ إلى الآن ـ من أقطار الأرض وجاذبيتها ‎، وبقيت السموات حِجرًا محجورًا؟

إن كل ما أمكن الوصول إليه من معلومات عن طريق الآلات الحديثة لا يعدو أن يكون في سماء الدنيا، فإن الكشوف الفلكية والكواكب وأبعادها وسرعة ضوئها ودورانها مازالت في إحدى السَّموات وهي الدنيا، الشمس تبْعُد عن الأرض 93 مليون ميل، كما قال تعالى: (إِنَّا زَيْنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوِاكِب) (سورة الصافات : 6) فهل يستطيعون أن ينْفُذوا من أقطار السماء الدنيا كلِّها، ثم يتطلعون إلى بقية السموات؟

على أن المقام ، كما ذكرت ، هو مقام الحساب والجزاء بدليل السِّباق والسِّياق، فأوْلى أن يُحْمَل اللفظ على ما يليق به ولا داعي للتعسُّف وطلب دليل من القرآن، فكم من حقائق علمية ثبتَ بغير الاستدلال عليها من الكتاب الكريم، ولا ضَيْر في ذلك أبدًا، على ما عَلِمْتَ من مهمة القرآن في الهداية والإعجاز.

(ب) استدلَّ بعض العامة من الناس على كُروية الأرض بالآية السابقة قائلاً: إن التعبير بالأقطار يُثْبِت كُروية وكُروية السَّموات؛ لأن القُطْر هو الخط المُوصل بين نقطتين على المحيط مارًا بمركز الدائرة ، والأقطار لا تكون إلا للدوائر وهذا بالتالي يُثبت الكروية. ويُرد عليه بأن القُطر الذي يتحدث عنه هذا الشخص اصطلاح هندسي لم تعرفه العَرب، فهم يعرفون القُطْر بأنه الجهة والناحية لا الخط المذكور، والنَّفَاذ من الأقطار يكون بالخروج من الجهات والمنافذ لا من الخطوط التي يتصورها المهندسون.

إن كروية الأرض حقيقة ثابتة ، وحياة الناس وتطورها مبني عليها، والدليل على ذلك ليس من القرآن، ولا داعي لالتماسه منه أبدًا، على ما علمت من مهمته في الإعجاز وهداية الناس.

(جـ) دور الرياح في تلقيح النبات بحمل مادة الذكورة إلى مكانها الذي تلتقي فيه بمادة الأنوثة فيكون الإخْصاب، على ما هو مُقَرَّر في علم النبات . استدلَّ عليه البعض بقوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِن السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوه) (سورة الحجر: 22).

فاللواقح جمع لاقح بمعنى حاملة للقاح، أو مُلقحة لغيرها بما تحمله، إن دور الرياح في نقل اللقاح معروف، ولكن في أخذه من هذه الآية تعسُّف وتكلُّف؛ ذلك أنه لو كان المراد تلقيح النبات لجاء عقبها ما يتحدث عن النبات فيقال مثلاً: فزكا الزرع وخرج الثمر ولكن الذي حدث أن الذي جاء بعدها قوله تعالى: (فَأَنْزَلْنَا مِن السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوه) وهذا يشير إلى أن المعنى أن الرياح المُحملة ببخار الماء؛ يرسلها الله فتتجمع السُّحب ويتكاثف البخار ويبرد في الطبقات الجوية الملائمة فينزل الماء، وهذا هو التنسيق المعقول بين إرسال الرياح اللَّواقِح وإنزال الماء من السماء لسقي الناس. فأوْلى أن تُحْمَل الآية عليه، ولا يُتَعسف بحملها على ما يثبت دورها في تلقيح النبات. فذلك مُشاهَد بالملاحظة والنظر لا حاجة إلى الدليل النقلي عليه.

(د) قالوا : إن حدود الكون تتسع وتمتد؛ واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (الذاريات: 47).
لكن العلماء قالوا: إن لفظ (مُوسِعون) مأخوذ من أوسع الرجل إذا صار ذا سَعة وغِنى؛ ومنه قوله تعالى: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) (سورة البقرة: 236)

فالآية تدلُّ على قُدرة الله، وقدرته تتجلى في أشياءَ كثيرة، ولا مانع أن يكون منها توسيع حدود الكون، فهو الذي خلقه بقدرته وعلمه. فلا ينبغي قَصْرُ معنى السعة على هذا الذي يريده علماء الفلك والطبيعة.

(هـ) قالوا: إن كل شيء في السماء يعتريه ازدياد مُفاجئ في حرارته وحَجْمه وإشعاعه بدرجة لا تتصورها العقول، وعند ذلك يتمدد السطح بما حوى من لهب ودخان، حتى يحصل على توازنه الدائم، والشمس لم تمر بهذا الدَّوْر بعد، فإذا مرَّت به وتمدد سطحها الخارجي حتى وصل القمر يختل توازن المجموعة الشمسية كلِّها، وذلك يوم القيامة، ويدُل عليه قوله تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ) (سورة الدخان : 10).

قال المُفسرون : إن هذا الدُّخان من علامات الساعة، كما في صحيح مسلم، وقيل إن الدخان هو ما أصاب قريشًا من الجوع بسبب دعاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليهم؛ كما رواه البخاري في حديث يصور هذا الجوع جاء فيه: فجعل الرجل ينظر إلى السَّماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدُّخان من الجهد، فأنزل الله: (فَارْتَقِبْ..) وجاء فيه: أن النَّبي استقى لهم فسُقوا ولكن استمروا على عنادهم فقال الله تعالى: (يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) يعني يوم بدر، وقيل إنه غبار الجيش يوم فتح مكة.

(و) قالوا أيضًا مما يشير إلى قِلة الأوكسجين في الطبقات الجوية العليا قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (سورة الأنعام: 125).
وظاهرة ضيق الصدر تحصل عند الارتفاعات العُليا، ومثل هذا واضح لا شك فيه، ويفيد في تصور المعنى المراد دون أن يَمَسَّ قُدْسية القرآن.

كما قالوا: إنَّ الأبعاد والمسافات الشاسعة بين النجوم والتي لا يمكن حسابُ بعضها يشير إليه قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) (سورة الواقعة : 75).
فإن مجموعات النجوم التي تكون أقرب مَجَرات السماء منا تبعُد عنا بنحو 700 ألف سنة ضوئية، والسَّنة الضوئية تُعادل عشرة ملايين الملايين من الكيلو مترات(1) (الضوء يقطع في الثانية 186000 ميل) 300.000 ك م فهذه الأبعاد الشاسعة جديرة بأن يُقْسِم الله بها لعِظَمها، وهذا وجه من وجوه العظمة وقد يكون منها دِقة مساراتها وعدم تصادمها وتحديد الجاذبية في كلٍّ منها، فالآية شاملة عامة.

وقالوا أيضًا : مما يدُل على قوة الاستدلال ببصمات الأصابع على شخصية صاحبها قوله تعالى: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَه) (سورة القيامة:4)؛ لأن دقة الخطوط واتجاهاتها وعددها لا يكاد يتفق فيها شخصان، فتسويتها يوم القيامة على ما كانت عليه بعد أن كانت ترابًا منثورًا موزعًا في أماكن قاصية دليل على قدرة الله تعالى، وهذا وجه من وجوه قدرة الله على بعث الناس يوم القيامة بأجسامهم المشخصة لهم بعد فنائها.

مثل هذه الأمثلة الأخيرة لا يضر توضيح آيات القرآن به أبدًا، ولكن الممنوع قصرها على هذه المكتشفات، أو التعسُّف في التأويل الذي يخرج به اللفظ عن أصل وضْعه اللغوي واستعماله العُرْفي عند العرب الذين نزل القرآن بلغتهم.

وبعد، فهذا عَرْضٌ مُوجَز لموقف القرآن من الكشوف العلمية الحديثة رأينا فيه تشجيعه للبحث والنظر، ورأينا دِقته حين عرض لشيء علمي كشف عنه البحث أخيرًا، وهذا دليل صِدقه وأنه من عند الله وحده أيَّد به رسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ . والمقررات العلمية الثابتة ستزيد معاني القرآن وضوحًا، وهذه صورة من صور التعانق بين العلم والدين ، أي العلم الثابت الأكيد، ودين الله الذي أنزله هداية للناس جميعًا: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٍ)

فليكن فَهمُنا له على ضوء الحقائق الثابتة لا النظريات الفَجَّة، ولنحفظ له قُدسيته فلا نقول على الله بغير عِلْم، ولا نجعله حِمىً مُسْتباحًا لكلِّ كاتب يُجِيل فيه قلمه بما ترمي به الأفكار الشاردة، فليس كلُّ مجال تُباح فيه الحرية للجائلين (أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ مُحِيط) (سورة فصلت : 54)