ذهب كثير من أهل العلم إلى أن دية المرأة في الجراحات والأعضاء – ما دون القتل – تكون مثل دية الرجل سواء بسواء ، فإذا زاد ما تستحقه على ثلث دية الرجل جعلت ديتها على النصف منه ، نزولا منهم على ما رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديته ).

وأبى جماعة من الفقهاء هذا الفهم لمعارضته صريح المعقول ؛ إذ كيف ينقص التعويض حينما يزيد الضرر، فكان ما رآه المحققون أن الدية فيما دون النفس يتساوى فيها الرجال والنساء إلى حدّ الثلث من دية النفس الكاملة للرجل، فتكون دية المرأة كدية الرجل. فإذا كانت جناية الخطأ تزيد ديتها عن ثلث دية النفس، فعندئذ تُنصّف دية المرأة في القسم الزائد فقط، ولا يسري التنصيف على الثلث الأول الذي وجب فيه التساوي بين الرجل والمرأة؟

يقول الأستاذ الدكتور مصطفى الزرقاء ـ أستاذ الشريعة والقانون بالجامعات السورية والعربية رحمه الله :-

اتفق أئمة العلم على أن دية النفس للمرأة هي على النصف من دية الرجل. أما في دية المرأة عما دون النفس من الأعضاء وأجزاء البدن، فقد اختلفوا؛ ذلك لأنه قد جاء في دية ما دون النفس من المرأة حديث خاص عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) هو قوله: “عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديته. وفي رواية عن البيهقي: “فما زاد فعلى النصف”، أي ما زاد عن ثلث دية الرجل. رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه النسائي والدار قطني، وصححه ابن خزيمة، وهو مروي أيضا عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت، وعن عروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز. وجاء في تكملة المجموع للمطيعي أنه قد رواه أيضا نافع عن ابن عمر.
والعقل في اللغة: الدية. يقال: عَقَله إذا أدى ديته؛ لأنها تَعقِل، أي تحجز عن الأثر والانتقام.

وقد انقسم علماء السلف وفقهاء المذاهب تجاه هذا الحديث إلى فريقين:
الفريق الأول: أخذ بهذا الحديث، وفسره بأن دية المرأة فيما دون النفس تتساوى ودية الرجل إلى الثلث من دية النفس الكاملة، فإذا زادت رُدت إلى النصف من دية أعضاء الرجل لو كانت الجناية واقعة عليه، وبهذا أخذ سعيد بن المسيب، ومن فقهاء المذهب مالك والشافعي في القديم، وأحمد بن حنبل (رضي الله عنهم).

وقد مثَّلوا جميعًا في تطبيقه بما إذا قُطعت بخطأٍ إصبع واحدة من يد المرأة، فديتها عشر من الإبل كما تقدم. فإذا قُطعت لها ثلاث أصابع فديتها ثلاثون كدية أصابع الرجل. أما إذا قطعت لها أربع أصابع، فديتها جميعا عشرون؛ لأنها لما جاوزت الثلث، وجب ردها إلى النصف من دية أصابع الرجل، ودية أربع أصابع منه أربعون من الإبل، فيكون نصفها للمرأة، وهو عشرون.
وواضح أن هذا في منتهى الغرابة، وبه صرحت كتبهم المذهبية على أنه هو السنة النبوية. (ينظر بداية المجتهد من الفقه العام، والشرح الصغير وغيره من كتب المالكية، والمُغني، وسواه من كتب الحنابلة، في أبواب الديات).

وفي هذا المقام تُروى مناقشة طريفة بين سعيد بن المسيب وربيعة بن أبي عبد الرحمن، رواها مالك (رضي الله عنه) في الموطأ، ونقلها ابن رشد في بداية المجتهد، كما نقلتها كتب التراجم؛ فقد جاء في كتاب “العقول”، وهي الديات، من الموطأ تحت عنوان: “ما جاء في عقل الأصابع” ما يلي:
“عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: سألت سعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ فقال عشر من الإبل. فقلت: كم في إصبعين؟ قال: عشرون من الإبل. فقلت: كم في ثلاث؟ فقال: ثلاثون من الإبل. فقلت: كم في أربع؟ قال: عشرون من الإبل. فقلت: أحين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها، نقص عقلها؟! (أي ديتها). فقال سعيد: أعراقي أنت؟ فقلت: بل عالم متثبت أو جاهل متعلم. فقال سعيد: هي السُّنة يا ابن أخي”.
ويتجلى من هذه القصة مدى الغرابة التي تبدو في رأي هذا الفريق الأول من أئمة العلم في هذا الموضوع؛ فكيف يمكن أن يفهم أن تكون دية ثلاث أصابع ثلاثين من الإبل، ودية أربع أصابع عشرين؟ فهذه الغرابة والتناقض في الحكم كان لهما تأثير واضح في موقف الفريق الثاني من هذا الحديث.

الفريق الثاني: ويرى هذا الفريق في حديث عمرو بن شعيب هذا حكما غريبا مباينًا للمعقول، فإن زيادة ضرر الجناية تقتضي زيادة التعويض فيها لا خفضه، فالتمسوا المخرج من هذا الإشكال فوجدوه في حديث معاذ (رضي الله عنه) عن دية المرأة أنها نصف دية الرجل.

فرأوا أنه عام يشمل دية النفس فما دونها، أو أنه يتناول دية نفس المرأة بلفظه، ودية ما دون نفسها بطريق القياس. ورأوه بذلك معارضا لحديث عمرو بن شعيب، الذي أوجب التساوي في الدية إلى حدّ الثلث، فإن زاد على الثلث ينصف، وما أدى إليه تطبيقه من حكم غريب، فتركوه وأخذوا بحديث معاذ، وعمموه على دية النفس وما دونها. وبهذا أيضا أخذ عمر وعلي (رضي الله عنهما).
وبهذا النظر أخذ أبو حنيفة، وبه أيضا أخذ الشافعي في مذهبه الجديد؛ حيث رجع عن رأيه في القديم، الذي كان فيه مع الفريق الأول.

وفي هذا المقام يقول الإمام الشافعي (رضي الله عنه) معللا رجوعه عن رأيه القديم (فيما أخرجه عنه البيهقي، وفيما رواه عنه صاحب التلخيص) ما نصه: “إن قول سعيد: إنه من السنة، يشبه أن يكون معناه أنه وارد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أو عن عامة من أصحابه”. ثم قال: “وكان مالك أيضًا يذكر أنه السُّنة، وكنت أتابعه عليه وفي نفسي منه شيء، ثم علمت أنه يريد أنه سنة أهل المدينة، فرجعت عنه، والقياس أولى بنا في ذلك”.
انتهى كلام الشافعي في تعليل رجوعه عن رأيه القديم.

ولنتأمل في قول الشافعي (رضي الله عنه): “كنت أتابعه عليه وفي نفسي منه شيء”، فإنه يشير إلى الغرابة الكبيرة في رأي الفريق الأول، والنتيجة العجيبة التي أداهم إليها في دية أصابع المرأة ونحوها من الجراحات.

ثم بين الدكتور الزرقا أن هذا الحديث لا يحمل هذا الاستشكال لولا ما فرضه الفقهاء الأوائل من أمثلة تطبيقية فقال :-

إن حديث عمرو بن شعيب، الذي تضمن مساواة دية المرأة لدية الرجل، حتى تبلغ الثلث من ديته، لم يكن بظاهره يثير مشكلة أو استغرابا لولا الأمثلة التطبيقية التي أوردها من أخذوا به في دية أصابع المرأة.
وإنني منذ دراستي الشرعية الأولى، التي كان شأننا فيها التلقي عن شيوخنا والحفظ دون مناقشة، كنت أستشكل في نفسي جواب ابن المسيب لربيعة بن أبي عبد الرحمن أن دية ثلاث أصابع من يد المرأة ثلاثون من الإبل، ودية أربع أصابع عشرون، وكنت ألوك ذلك في فكري فلا أُسيغه، ثم تعتريني خشية من قوله: إنه السنة، فأصرف فكري عن الموضوع.
ولما جاءتني دعوة الرئيس الباكستاني “السيد ضياء الحق” (رحمه الله) لمناقشة مشروع قانون القصاص والديات مع الفئات المعارضة له، عدت إلى مَراجعي قبل السفر، ومرت بي من جديد قصة سعيد بن المسيب مع ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وعاد فكري يشتغل وتساءلت: بماذا أجيب المعترضين هناك، إذا طرحوا عليّ الإشكال، كما طرحه ربيعة على سعيد؟ فنحن يكفينا أن يقال لنا: إنها السنة النبوية، حتى نطأطئ رؤوسنا لها. ولكنّ المعارضين هناك لا تنحني رؤوسهم إلا لما يقنع.
وإني لكذلك، إذا بفكرة مفاجئة تنقدح في ذهني، فيبدو لي في هذا الحديث النبوي الجليل معنى غير ما بينه السلف الأوائل (رضي الله عنهم أجمعين)، وأيقنت من فوري أنه هو الفهم الصحيح لهذا الحديث، وبه تتجلى حكمة ووجاهة، بدلا من المشكلة التناقضية التي تبدو في ذلك المعنى الأول، والتمثيل الذي رافق روايته، وأوحى بأنه هو المعنى الوحيد.
فالفكرة التي لاحت لي في معنى هذا الحديث هي أن الدية فيما دون النفس يتساوى فيها الرجال والنساء إلى حدّ الثلث من دية النفس الكاملة للرجل، فتكون دية المرأة كدية الرجل. فإذا كانت جناية الخطأ تزيد ديتها عن ثلث دية النفس، فعندئذ تُنصّف دية المرأة في القسم الزائد فقط، ولا يسري التنصيف على الثلث الأول، الذي وجب فيه التساوي بين الرجل والمرأة؟ أي أن التنصيف، عندما تبلغ أو تتجاوز الدية الجزئية ثلث الدية الكاملة عن النفس، لا ينبغي أن يطبق بمفعول رجعي على الثلث الأول، فينقضَ التساوي الذي أوجبه الحديث النبوي فيه؛ إذ ليس في الحديث ما يدل عل هذا المفهوم الرجعي، وإنما أوحى به تفسير الرواة الأول وتمثيلهم التطبيقي.
وعندئذ شعرت كأنما أزيحت من أمام عيني ستارة كانت تحجب عني الرؤية، واطمأنت نفسي لهذا الفهم، وحمدت الله تعالى عليه.

وفي ضوء هذا المعنى نقول: إن دية الإصبع الواحدة للمرأة عشر من الإبل، كإصبع الرجل. ودية ثلاث أصابع ثلاثون من الإبل كذلك للرجل والمرأة. أما دية أربع أصابع؛ فللرجل أربعون من الإبل، وللمرأة خمس وثلاثون لا عشرون، وهكذا…فدية ما بعد الأصابع الثلاث هي التي تنصف. أما دية الثلاث فتبقى متساوية.

وبهذا الفهم لمعنى الحديث تظهر الحكمة في تساوي دية الجراحات بين المرأة والرجل إلى حد ثلث دية النفس الكاملة، وحكمة تنصيف ما زاد عن ذلك؛ لأن الدية تعويض عن الضرر كما سلف بيانه، فإن أثر الضرر في انعكاساته على حياة المجني عليه ونشاطه الاكتسابي لا يختلف بين الرجل والمرأة في الحدود الصغرى: كالظفر، والإصبع، وإنما يتفاوت بينهما في الحدود الكبرى.

ثم وضع فضيلة الدكتور الزرقا شرطا يقيد به هذه القاعدة حتى لا تتناقض مع قواعد أخرى فقال :-

على أن هذا الفهم في ترتيب دية أصابع المرأة يجب تقييده بقيد ضروري، يفرضه العقل أيضا لانسجام الأحكام دون تناقض، وهو ألا تتجاوز دية أصابع المرأة دية نفسها الكاملة؛ ذلك لأن كثرة عدد الأصابع يمكن معه في بعض الحالات، وبهذا الفهم الجديد، أن تتجاوز دية أصابع المرأة دية نفسها التي هي نصف دية الرجل.
فمثلا: لو قطع تسع أصابع من يدي المرأة بطريق الخطأ، فإن ديتها بحسب هذا الفهم الجديد ستكون كما يلي:
1- ثلاثون من الإبل عن الأصابع الثلاث الأولى (عن كل واحدة عشر كالرجال).
2- ثلاثون أخرى من الإبل عن الأصابع الست الأخرى، تنصيفا لدية الرجال، فيكون المجموع عن أصابعها التسع ستين من الإبل، بينما دية نفسها كلها خمسون، فلا يعقل أن تتجاوز دية الأصابع كلها دية النفس الكاملة.
فلذا يجب أن يقيد ذلك بألا يتجاوز دية أصابع المرأة بهذا الترتيب دية نفسها كاملة، فإذا تجاوزت توقفت عند حد دية النفس.

العلامة الشوكاني يسبق الدكتور الزرقا إلى هذا الفهم :

يقول الدكتور الزرقا رحمه الله تعالى راجعت ما قال الإمام الشوكاني في كتابه “نيل الأوطار”؛ لأرى ما فيه حول هذا الموضوع، وأستعين بما ينقله ويستقصيه. ولم أكن راجعته فيما راجعت قبلا؛ لأنه لم يكن عندي، فإذا بي أجده قد سبقني (رحمه الله) إلى هذا الفهم الجديد في حديث عمرو بن شعيب، وانتقد الفهم التقليدي السابق، ووجدته يقول عن دية المرأة ما نصه بالحرف:
“لا يدل حديث عمرو بن شعيب إلا على أن أرشها في الثلث فما دون مثل أرش الرجل. وليس في ذلك دليل على أنها إذا حصلت المجاوزة للثلث لزم تنصيف ما لم يجاوز الثلث. فالأولى أن يحكم في الجنايات المتعددة بمثل أرش الرجل في الثلث فما دون. وبعد المجاوزة يحكم بتنصيف الزائد على الثلث فقط؛ لئلا يقتحم الإنسان في مضيق مخالف للعدل والعقل والقياس بلا حجة نيّرة” (نيل الأوطار، ج7، ص: 226). فأثلج صدري هذا الكلام منه، وقويت ثقتي بما فهمته، وزادت مكانة الشوكاني (رحمه الله) في نفسي (وهو يُعتبر من المعاصرين لقرب عهده منا، ورددت المثل السائر: “كم ترك الأول للآخر؟”، وأنشد قول القائل:
شيئا ويرى للمقدَّم التقديما قل لمن لا يرى المعاصر
وسيغدو هذا الحديث قديما إن ذاك القديم كان حديثًا
ورضي الله عن الإمام مالك، الذي لم يرض أن يرسل الخليفة العباسي المنصور كتابه “الموطأ” (وهو الذي كلفه وضعه) إلى الأمصار، ويُلزم القضاة أن يحكموا بما فيه، توحيدًا للحكم القضائي، بل قال له مالك (رضي الله عنه): “إن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد تفرقوا في الأمصار، وعند كل فهم وعلم”.
ورضي الله عن الإمام مالك تكرارًا وتكرارًا، لكلمته الخالدة التي أطلقها تدوي في أسماع الأجيال حين قال: “إن كل واحد يرُدّ ويُرَدّ عليه، إلا صاحب هذا القبر”، مشيرًا إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم).