يقول الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق-رحمه الله تعالى-:
شرع الإسلام الطلاق حينما تشتدُّ الخُصومة بين الزوجينِ وتسوء بينهما العِشْرة إلى حدٍّ لا تُجدي فيه مُحاولة الإصلاح، وبه تسير الحياة الزوجية نارًا تلتهم مزايَا الزواج الاجتماعية من السكن والمَودَّة والرحمة والتعاون، على تكوين أُسرة يُصان فيها الحقوق، وتترعرع في أحضانها الأطفال الذينَ يكونون بعد رجالًا عاملينَ في الحياة.

ولهذا شرع الإسلام الطلاق، وقد عرف الناسُ الطلاقَ من قديم، غير أنهم كانوا ـ بأهوائهم وبِطُغيانهم على المرأة وإذلالها ـ كثيرًا ما يقصدون به إيذاءها وإضرارها، فكان الرجل يُطلق زوجته ثم يُراجعها قبل انقضاء العدة، ثم يُطْلقها إلى غير حدٍّ: تطليق فمراجعة، ثم تطليق فمُراجعة وهكذا لا يتركها لتتزوَّج غيره فتستريح، ولا يثوب إلى رُشده فيُحسن عشْرتها فتستريح، وإنما يتَّخذها أُلعوبة بيده يُطلقها متى شاء على حسب ما يهوَى ويشتهي، فأنزل الله إنقاذًا للمرأة من هذا السوء قوله ـ تعالى ـ: (الطلاقُ مَرَّتَانِ فإِمْسَاكٌ بمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ).

والمعنى أن الطلاق المشروع عند تَحقُّق ما يُبيح الطلاق أن يكون على مرتين، مرة بعد مرة، أي دفعة بعد دفعة، فإذا ما طلَّق الرجل المرة الأولى أو الثانية كان عليه إما ردُّها إلى عِصْمَتِه ـ مع إحسان عشرتها فتستمر الحياة بينهما طيِّبة سعيدة ـ وذلك هو الإمساك بالمعروف، وإما ترْكُها حتى تنقضي عدَّتُها وتنقطع علاقتها به، ويزول سُلطانه عليها فتتزوَّج غيره إن شاءت وذلك هو التسريح بالإحسان.

فإن عاد الزوج بعد أن راجعها من الطلاق الثاني وطلَّقها ثالثة حرمتْ عليه، ولا يملك مراجعتها إلا إذا تزوَّجتْ بغيره زواجًا صَحيحًا مقصودًا به ما يقصد بالزواج، وهو العِشْرة الدائمة بالسكن والمودَّة، لا يُجْدي في ذلك ما اخترعه بعض الناس من الزواج بغيره على قصد التحليل؛ فإن هذا مُنكَرٌ واحتيالٌ، لا تَحِلُّ به للأول، وقد لعَن الرسول فاعلَه وسمَّاه: “التَّيْسُ المُسْتَعَارُ”.

وقد تضمَّن ذلك قوله ـ تعالى ـ بعد هذه الآية: (فإنْ طلَّقَهَا فلا تَحِلُّ لهُ مِن بَعْدُ حتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ). ومن هذا يتبيَّن أن الطلاق الثلاث مرةً واحدة ليس مشروعًا، وأنَّ الطلاق المشروع إنما هو الطلقة بعد الطلقة.

ويتبيَّن أن الطلاق الذي يملك الرجل فيه مُراجعة زوجه إنما هو الطلقة الأولى والثانية، أما الطلقة الثالثة فإنه لا يَملك مراجعتها، ولا تحلُّ له إلا إذا تزوجت غيره زواجًا غير مقصود منه التحليل، ثم يُطلقها ذلك الغير أو يموت عنها، وتمضي عدَّتُها منه، وعندئذ فقط تحلُّ لزوجها الأول بعَقْدٍ جديد ومهْر جديد، وهذا هو معنى الآية وما بعدها.