أباحت الشريعة الطلاق، ولكنها جعلته أبغض الحلال إلى الله عز وجل، وقد اتخذت الشريعة من التدابير الواقية من الوقوع في الطلاق ما سيأتي بيانه بعد، لكنها لم تحرمه لحاجة الرجل والمرأة إليه في كثير من الأوقات.

ورد في كتاب (بيان للناس) الذي أصدره الأزهر ما يلي:

الانفصال بين الزوجين معروف من قديم الزمان في الشرائع الوضعية والأديان السماوية؛ لأن الزواج تكوين لشركة تتعاون على تحقيق الهدف منه، وهو السكَن والمودَّة ورعاية النسل، وكل شركة لا تُوفَّق في تحقيق أهدافها بعد محاولة إصلاحها كان من الأوفق أن تَنْحَلَّ، ويسعى أصحابها للبحث عن شُرَكاء آخرين صالحين لإنتاج الخير. وجاء الإسلام، وهو خاتمة الرسالات، فأبقى على هذا المبدأ ونظَّمه.

ومن وُجوه الحِكْمة في تقرير مبدأ الطلاق:
قد تكون الزوجة عقيمًا والرجل يريد نسلًا، وطلب النسل مشروع وهو الهدف الأول من الزواج، ولا تَرْضَى الزوجة بأن يَضُمَّ إليها أخرى. أو لا يستطيع هو أن يُنْفِق على زوجتين، وبالمِثْل قد يكون بالزوج عيب يمنع من وُجود النسل، وهي تتَوَقَّ لإشباع غريزة الأمومة، فلا سبيل إلا الطلاق.

وقد يكون بأحدهما مرَض مُعدٍ يُحِيل الحياة إلى متاعب وآلام، فيكون العلاج بالطلاق.

وقد يكون الزوج سيئ العِشْرة خَشِن المعاملة لا يُجدي معه النصح، وقد تكون هي كذلك فلا مَفَرَّ من الفراق.

وقد تكون هناك أسباب أخرى منه أو منها فيكون الطلاق أمرًا لابد منه، والواقع يُقَرِّر أن للطلاق مَضارَّ بجوار ما فيه من منافعَ، فله أثرُه على المرأة إذا لم يكن لها مَوْرِد رزق تعتمد عليه ويُخْشَى أن تسلُك مسالك غير شريفة، وله أثره على الرجل في تَحَمُّل تَبِعاته المالية والنفسية إذا لم يَجِد مَن تعيش معه إذا كان الطلاق بسببه، كما يتضرر به الأولاد الذين لا يَجِدون الرعاية الصحيحة في كنَف الوالدين، فإما أن يعيشوا تحت رعاية زوج أمهم أو تحت رعاية زوجة أبيهم، وإما أن يَتَشَرَّدوا فلا يجدوا ما يَحْمِيهم من الانحراف، وفي ذلك كله ضرر على المجتمع.

ومن أجل هذا جعلَه الإسلام في أضيَق الحدود، ونهاية المطاف في محاولة التوفيق، وقرر أنه أبغض الحلال إلى الله، وبيَّن الحديث الشريف أنه من أهم العوامل التي يَسْتَعِين بها إبليس على إفساد الحياة البشرية، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: “إن إبليس يضع عرشَه على الماء ثم يبعث سراياه، فأدناهم منزلةً أعظمهم فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول له: ما صنعتَ شيئًا، قال: ويجيء أحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فرَّقتُ بينه وبين أهله. قال: فيُدنِيه، أو قال: فيَلْتَزِمُه ويقول: نعَم أنتَ” (رواه مسلم).

وكما حذَّر منه الرجلَ حذر المرأةَ فقال: “أيما امرأةٍ سألت زوجَها طلاقًا في غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة” (رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن).

وكان من هَدْي الإسلام في الحدِّ منه إلى جانب ما ذُكِر:
أنه وَصَف الزواج بالميثاق الغليظ، وذلك يدعو إلى احترامه وعدم التفكير في حَلِّه، قال ـ تعالى ـ: (وكيفَ تأخُذونَهُ وقَدْ أَفْضَى بعضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُمْ مِيثاقًا غليظًا) (سورة النساء: 21).

جعل الطلاق على مَراحل من أجل التجرِبة فلم يَحكُم بهدْم الحياة الزوجية من أول نِزاع بين الزوجين، بل جعله على ثلاث مرَّات يملك بعد كل من الأولى والثانية أن يُراجعها، ولا تحل له بعد الثالثة حتى تتزوج غيره، قال ـ تعالى ـ: (الطلاقُ مرتانِ فإمساكٌ بمعروفٍ أوْ تسريحٌ بإحسانٍ)… إلى أن قال: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لهُ من بعدُ حتى تَنْكِحَ زوجًا غيرَهُ) (سورة البقرة: 229 ـ 230).

3 ـ نَدَب إلى إمساك الزوجة وعدم طلاقها إن كَرِهَهَا لأمر، وفيها أمور تدعو إلى إمساكها، قال ـ تعالى ـ: (وَعاشِرُوهُنَّ بالمعروفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أنْ تَكْرَهُوا شيئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فيه خيرًا كثيرًا) (سورة النساء: 19)، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “لا يَفْرَك مؤمن مؤمنةً، إن كَرِه منها خلُقًا رَضِي منها آخرَ” (رواه مسلم).

4 ـ أمر الزوج بضبط أعصابه والتريُّث في تقويم زوجته، قال ـ تعالى ـ: (واللاتِي تَخافونَ نُشوزَهنَّ فَعِظوهنَّ واهجُروهنَّ في المضاجعِ واضرِبُوهنَّ فإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عليهِنَّ سبيلًا إنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كبيرًا) (سورة النساء: 34).

5 ـ إذا لم يستطع الطرَفان علاج المشكلة تدخَّلت عناصر للعلاج تَهُمُّها مصلحة الزوجين، قال ـ تعالى ـ: (وإنْ خِفْتُم شِقاقَ بَيْنِهِمَا فابْعَثُوا حَكَمًا من أهلِه وحكمًا من أهلِهَا إنْ يُريدَا إصلاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بينَهُمَا إنَّ اللهَ كانَ عليمًا خبيرًا) (سورة النساء: 35).

صان قداسة الزوجية من العبَث فحذَّر من صدور كلمة الطلاق حتى على سبيل الهَزْل. معنى الحديث: “ثلاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ، وهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: النكاحُ والطلاقُ والرَّجْعةُ” (رواه أبو داود).

7 ـ لم يحكم بطلاق المجنون والمُكْرَه عليه؛ ففي الحديث: “رُفِع القلم عن ثلاث: عن المجنون حتى يَفِيق، وعن الصبي حتى يُدرِك، وعن النائم حتى يستيقظ” (رواه أبو داود وصححه) وفيه ـ أيضًاـ: “إن الله وضَع عن أمتي الخطأَ والنِّسيان وما اسْتُكْرِهُوا عليه” (رواه أصحاب السنن برجال ثقات، وليس فيه علة قادحة) وفيه: “لا طلاقَ ولا عِتاقَ في إغلاق” (رواه أبو داود والحاكم وصححه) وفُسِّر الإغلاق بالإكراه كما فُسِّر بالغضَب، وألحق بعض العلماء السكرانَ بالمجنونِ.

8 ـ لا يقع الطلاق بحديث النفس دون تَلَفُّظ به، ففي الحديث: “إن الله تجاوَزَ لأمتي عما حدَّثَتْ به نفسَها ما لم تتكلَّمْ أو تعملْ به” (رواه البخاري ومسلم).

9 ـ حرَّم على المرأة أن تَشتَرِط لزواجها أن يُطلِّق الزوج مَن هي تحت يده؛ ففي الحديث: “لا تَسأل المرأةُ طلاقَ أختِها لتَسْتَفرِغ ما في صَحْفَتِها، فإن لها ما قُدِّر لها” (رواه البخاري ومسلم).

10 ـ جعل العصمة أصلًا بيد الرجل؛ لأنه هو الذي دفع المهر ويتكفل بنفقة الزوجية، وهو أضبط لعواطفه وأدرى بالتبِعَات التي تترتَّب عليه.

11 ـ وهناك تشريعات أخرى كعدم وُقوع الطلاق قبل النكاح، والطلاق المُعَلَّق الذي لا يُقْصَد به التطليق، وما يُسَمَّى بالطلاق السُّنِّي والبِدْعِي، وفيها نصوص وخلاف للعلماء.

هذه بعض التشريعات التي تُساعد على الحَدِّ من الطلاق، وقد علَّمنا أنه حِلٌّ يُلْجَأ إليه عند تعذُّر الإصلاح، وأخذت به كل التشريعات قديمها وحديثها، وما لجأت إليه بعض الدول من تحريمه وإباحة التفريق الجسدي أدَّى إلى أخطار كثيرة وانحرافات شكَا منها المصلحون.

ومحاولات بعض الدُّعاة للتجديد وتحرير المرأة للحد منه باقتراحات وإجراءات قضائية، قد تَزِيد المشكلة تفاقمًا، وتقضي على فرصة العودة بعد تَجْرِبة الفِراق، وتَكَشُّف ما كان ينبغي أن يبقى مستورًا، بل جعلت بعض الشباب يُحجم أو يتأخَّر عن الزواج خشية تَبِعاته وتبعات الفِراق، وفي ذلك إضرار بالمرأة ـ أيضًاـ من حيث يَظُنُّ المُتَحَرِّرون أنهم يَخْدُمونها.

وفي اتباع هَدْي الإسلام: تشريعات وخلُقًا، مع الإخلاص المتبادل، ما يُغْنِي عن كل هذه الاقتراحات، التي لا يَعْدِم مَن لا ضمير عنده أن يتَحايَل حتى لا يقع تحت طائلتها، والواقع يشهد بذلك، فلنحرِص على التمسُّك بالدين ولنتعلم ما جاء عن الله ورسوله بفهم دقيق وإحاطة وشمول، ففيه الخير كله: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ باللهِ فَقَدْ هُدِي إلى صراطٍ مستقيمٍ) (سورة آل عمران: 101).