يقول الدكتور: السيد صقر، المدرس بجامعة الأزهر:
بعض المصلين يقدم غيره للصلاة في الصف الأول ويتأخر هو للصف الثاني، هذه المسألة تدخل فيما يسميه العلماء بـ ” الإيثار بالقرب “، والإيثار بالقرب معناه أن يقدم المسلم أخاه في أمر من الأمور الدينية التي تقرب إلى الله تعالى، ومن القواعد الفقهية : (لا إيثار في القرب)، وهي قول جماهير العلماء: أنه يكره الإيثار فيها، وخالف في ذلك بعض العلماء فقالوا بالجواز وعدم الكراهة.
قال السيوطي في الأشباه والنظائر: الإيثار في القرب مكروه وفي غيرها محبوب، قال تعالى: ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) الحشر:9، قال الشيخ عز الدين: لا إيثار في القربات، فلا إيثار بماء الطهارة، ولا بستر العورة ولا بالصف الأول، لأن الغرض بالعبادات: التعظيم والإجلال، فمن آثر به، فقد ترك إجلال الإله وتعظيمه.
واستدل الجمهور بما في الصحيحين وغيرهما: أن رسول الله ﷺ أتي بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام، وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا، والله لا أوثر بنصيبي منك أحداً، فتله (وضعه) رسول الله ﷺ في يده.
قال النووي في شرح مسلم: وقد نص أصحابنا وغيرهم من العلماء على أنه لا يؤثر في القرب، وإنما الإيثار المحمود ما كان في حظوط النفس دون الطاعات، قالوا: فيكره أن يؤثر غيره بموضعه من الصف الأول وكذلك نظائره.
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الإيثار بالقرب، وقد عد ابن القيم – رحمه الله تعالى- في زاد المعاد ذلك غاية الكرم والسخاء والإيثار، فقال رحمه الله تعالى: وقول من قال من الفقهاء لا يجوز الإيثار بالقرب لا يصح.. وذكر من الأدلة على ذلك عدة آثار عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم منها: أن أبا بكر ناشد المغيرة أن يدعه هو يبشر رسول الله ﷺ بقدوم وفد الطائف ليكون هو الذي بشره وفرحه بذلك، وهذا يدل على أن الرجل يجوز له أن يسأل أخاه أن يؤثره بقربة… وأنه يجوز للرجل أن يؤثر بها أخاه… وقد آثرت عائشة عمر بن الخطاب بدفنه في بيتها جوار النبي، وسألها عمر ذلك فلم تكره له السؤال ولا لها البذل… وختم ابن القيم بحثه الطويل في هذا الموضوع بقوله: وهل إهداء القرب المجمع عليها والمتنازع فيها إلى الميت إلا إيثارا بثوابها، وهو عين الإيثار بالقرب (انظر الجزء الثالث من الزاد ص 221 وما بعدها ).
ويمكن الجمع بين القولين بأن الإيثار في الأصل مكروه لما فيه من ترك فرصة للحصول على الثواب، ولكن تزول الكراهة في بعض الأحوال، ومنها :
أن يطلب الغير تقديمه ونيله فرصة فعل الطاعة بمباشرته سببها، كما ورد في الوقائع التي استدل بها المجيزون، حيث لم يتم فيها الإيثار من تلقاء نفس المؤثر، وإنما بعد الطلب.
ومنها: أن يكون في الإيثار مصلحة دينية، كإيثار الأقرأ والأعلم بالصف الأول ليكون خلف الإمام، ففي ذلك مصلحة للصلاة عملا بما روي عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ” ليلني منكم أولوا الأحلام و النهى، ثم الذي يلونهم ، و لا تختلفوا ، فتختلف قلوبكم، و إياكم و هيشات الأسواق “، رواه ابن ماجه والنسائي وابن خزيمة في صحيحه ، والترمذي وقال : حسن صحيح .
ففي مثل هذه الحالات لا يكره الإيثار، بل يجوز، لأن المؤثر في هذه الحالة يكون قد حصل على الثواب ، إما بالنية والعزم بعد التمكن من المباشرة ووجود مانع، وإما بمراعاته مصلحة دينية غير الطاعة والقربة التي آثر بها غيره.
وفي غير ذلك يكره الإيثار ، ولذلك شرع الاقتراع على الأذان وعلى الوقوف في الصف الأول ، فقد روى البخاري في صحيحه وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال : ” لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا لاستهموا عليه ” أي: اقترعوا.