قال تعالى ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ) ( سورة الإسراء: 110 )
قال بعض المفسرين: إن المراد بالصلاة هنا الدعاء، بدليل الآية السابقة عليها ” قُلِ ادْعُوا الله أو ادْعُوا الرَّحْمَن أيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاء الحُسْنَى “، والمراد أن يكون الدعاء وسطًا بين الجهر الذي يُوقِظ النَّائم ويُزْعِجُه أو يَجُر إلى الرِّياء، وبين الإسرار الذي لا يَسمعه الدَّاعي، ويكون أشبه بالهَمْس غير المفهوم . وهذا ما رواه مسلم .
وأخرج البخاري ومسلم أيضًا عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أنها نزلت ورسول الله ـ ﷺ ـ متوارٍ بمكَّة، وكان إذَا صلَّى بأصحابه ورفع صوته بالقرآن، فإذا سمِع المشركون سبُّوا القرآن ومَن أنْزله ومَن جَاء به، فقال الله تعالى ( ولا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ ) فَيَسْمَع المُشْرِكُون قراءتك ( ولا تُخَافِتْ بِهَا ) عن أصحابك . أي أسْمعهم القُرآن ولا تجْهر ذلك الجَهْر وابتغِ بيْن ذلك سبيلاً هو بيْن الجَهْر والمخَافتة .
وهذان السببان أصح ما ورد في نزول الآية . وروى أحمد وأبو داود أن رسول الله ـ ﷺ ـ مرَّ ليلة بأبي بكر وهو يصلِّي يَخْفض صوته، ومرَّ بعمر وهو يصلِّي رافعًا صوته . فلما اجتمعا عند رسول الله ـ ﷺ ـ قال ” يا أبا بكر مررْت بك وأنت تصلِّي تَخفض صوتك “، فقال: يا رسول الله قد أسمعتُ من نَاجَيْت . وقال لعمر ” مررْت بك وأنت تصلِّي رافعًا صوْتك “، فقال يا رسول الله أوقظ الوَسْنان وأطرد الشيطان . فقال ـ ﷺ ـ ” يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئًا “، وقال لعمر ” اخْفِض من صوتك شيئًا “، ولعلَّ هذه المحادثة كانت بعد نزول الآية، فأراد النبي ـ ﷺ ـ أن يُرْشِدَهما إلى تطبيقها .
أما الصلاة المفروضة التي يُجهر فيها فهى الصبح والجمعة والركعتان الأوليان من المغرب والعشاء، والتي يُسر فيها ما عدا ذلك، وهى الظهر والعصر والركعة الثالثة من المغرب والركعتان الأخيرتان من العشاء .
والجهْر يكون في قراءة الفاتحة وفي السورة أو الآية التي تَلِيها، أما الأذكار والأدْعية فيها فهي سرِّية إلا في قُنوت الصُّبح، والذي يَجْهر هو المنفرد وكذا الإمام، أما المأموم فهو يُسر أبدًا في قراءته .
والحِكْمة في السر في الصلاة ما كان عليه الحال في مكَّة من إيذاء المشركين لمن كانوا يُصلُّون ويجهرون بالقراءة فيها، وكانت الصلاة ركعتين ركعتين، فبقِيَت في السفر على ذلك وزِيدَت في الحَضَر .
والكفار كانوا مشغولين عن المصلين قبل طلوع الشمس لأنهم نائمون، فبقى الجهْر في صلاة الصبح كما كان . وكذلك كانوا مشْغولين بعد غروب الشمس بالنَّوم أو السهر الخاص، فبقِيَ الجهر في المغرب والعشاء كما كان .
وصلاة الظهر وصلاة العصر في وضَح النهار فشُرع السر فيهما خشية إيذاء الكفَّار أما الجمعة فشُرِعت صلاتها في المدينة أو بعد الهِجْرة، وكان شَرْعُها بقوله تعالى ( يَا أيُّها الذين آمنوا إذا نُودِيَ للصِّلاة مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ الله وذَرُوا البَيْعَ ) (سورة الجمعة: 9)، والنِّداء لهَا وللصلوات الأخرى بالأذَان شُرِع في المدينة .
على أن كثرة عدد المصلين للجمعة فيها قوَّة تُرْهب عدوَّهم أن يَنالهم بسوء كما كان الحال في مكَّة، وإذا كان الأمن قد استتبَّ في المدينة ولم يَعُدْ هناك خوف من المشركين عند الجهر بالقراءة نهارًا فإن التشريع بقِيَ كما كان تسجيلاً لفترة من التاريخ، وشكرًا لله على النعمة كُلَّما تذكَّرْنا ما كان عليه المسلمون في مكة وما آل إليه الإسلام بعد ذلك من نصر وقوة .