يقول الله تعالى (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ومَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمونَ النَّاسَ السِّحْرَ ومَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابَلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُون مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِه بَيْنَ الْمَرء وَزَوْجِه وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِه مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإذْنِ اللهَ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَن اشْتَرَاه مَالَه فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِه أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون) (سورة البقرة: 102).

مادة السِّحر التي وردت في القرآن الكريم ستين مرة تُعْطي فيما تعطي من المعاني: الغَرابة والخروج على المألوف بما يجذب الانتباه ويُثِير العجَب، ومنه القول المأثور: إن من البيان لسحرًا، وله أنواع وأساليب ذكرها الفخر الرازي في تفسيره.
وقد أشار القرآن الكريم إلى اشْتِهار المصريين القدماء به، وذكر موقفهم من دعوة موسى عليه السلام، ومعجزة العصا التي انقلبت حَيَّة وابتلعت حبال السحرة وعِصيَّهم التي يُخيَّل لمن يراها أنها تسعى، كما مارستْه بابل القديمة حتى ضُرب به المثل في كل جميل غريب فيقال: “سِحْرٌ بابلي”. وعرفه العرب قبل الإسلام، وما يزال معروفًا إلى الآن.

وتفيد الآية الكريمة المذكورة عدة أمور:
(أ) أن السحر حقيقة تاريخية موجودة، بصرف النظر عن كونه تخييلاً يجعل الإنسان ينظر إلى الشيء على غير حقيقته، أو كونه يقْلب الشيء عن حقيقته ويحوِّله إلى حقيقة أخرى، والذي يجب الإيمان به أن ما كان من انقلاب عصا موسى إلى حَيَّة ليس سحرًا، وإنما هو معجزة من صُنع الله تعالى، خَرَقَ بها العادة، وحوَّل حقيقة العصا الجامدة الميتة إلى حية متحركة بقدرته سبحانه، ثم أعادها بقدرته أيضًا إلى حقيقتها الأولى.
وجاء تعبير القرآن الكريم عما فعله السحرة بقوله (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسَ واسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ(سورة الأعراف: 116)، وقوله تعالى (يُخَيَّلُ إِلَيْه مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (سورة طه: 66).
(ب) أن للسِّحر تأثيرًا بالنفع والضُّر (يُفَرِّقُون بِه بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِه).
(ج) أن تأثيره لا يكون إلا بإذن الله (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِه مِنْ أَحَدٍ إلَّا بِإذْنِ اللهِ).
(د) أن السِّحْر كُفْرٌ (وَلَكِنَ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أّحَدٍ حَتى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُر).

فما هو متعلَّق الكفر فيه، هل هو تعليمه وتعلُّمه، أو هو العمل به، أو هو اعتقاد أنه يُؤَثِّر بنفسه دون تدخُّل إرادة الله؟

حول هذه الأسئلة الثلاثة ثار الجدل واحتدَم النقاش وتعددت الآراء وذلك مبسوط في كتب التفسير، وعلى الأخص تفسير الفخر الرازي، وفي كتاب الزواجر لابن حجر الهيتمي من علماء القرن العاشر الهجري.

ومن بين هذه الآراء يمكن اختيار ما يأتي:
1 ـ أن اعتقاد تأثيره بعيدًا عن إرادة الله تعالى كُفْر، وذلك محلُّ اتفاق.
2 ـ أن ممارسته من أجل الإضرار بالناس حرام، حتى مع اعتقاد أنه يؤثِّر بإذن الله، فالإسلام لا ضَررَ فيه ولا ضِرار.
3 ـ أن ممارسته لتحقيق مصلحة مع اعتقاد أنه يؤثِّر بإذن الله لا حُرْمَة فيها. قال القرطبي: هل يسأل الساحر حَلَّ السحر عن المسحور؟ قال البخاري: عن سعيد بن المسيَّب ـ رضي الله عنه ـ يجوز وإليه مال المارزي، وكرهه الحسن البصري. وقال الشعبي: لا بأس بالنشرة، وفُسِّرت بالرُّقْية لعلاج المسحور. ( الزواجر لابن حجر: ج2 ص104).
4 ـ أن تعلُّمه أو تعليمه يُرجع فيه إلى المقصود منه، فإن كان خيرًا كمعرفة الفرق بينه وبين المعجزة ـ كما جاء في أمثلة العلماء ـ أو استعماله للمصلحة فلا حُرْمَة فيه، كنوع من الثقافة التي عبَّر عنها بعض الحكماء بقوله:
عرفتُ الشر لا للشر لكن لتوقِّيه
ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه
وإن كان المقصود من ذلك شرًا فهو حرام، فالأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.

وبهذا يُفهم حديث البخاري ومسلم الذي جَعل السحر من السَّبع الموبقات، أي كبائر الذنوب، والوسائل التي تُستخدم في السحر يعرفها الممارسون له والخبراء به، فقد تكون بالاستعانة بالجن، وقد تكون بمعرفة خواصِّ بعض الكائنات، وقد تكون بالإيحاء والاستهواء وبغير ذلك، فالوسائل إما من ذات الساحر، وإما من غيره، وهذا الغيْر إما كائن حي أو غير حي.

وقد ذكر الفخر الرازي منها ثمانية أنواع جاء فيها:

أنه قد يكون من أصحاب النفوس القوية بالتسلُّط على أصحاب النفوس الضعيفة.

وقد يكون بالاستعانة بالجن والعزائم والبخور.

وقد يكون بما يُقال عنه الآن خِفة اليد، يُلهي العين بعمل شيء ليعمل غيره.

وقد يكون بالفنِّ والصَّنعة التي تخلِب الألباب.

ومنه حِيَل التصوير السينمائي.

وقد يكون باستعمال أدوية لها خواصُّ معينة كالتي يدهِنون بها أجسادهم فلا تَحْرُقُهم النار..

هذا، وقد تحدَّث العلماء عن الحديث الذي ورد في البخاري ومسلم أن رجلاً من بني زُريق حليف لليهود اسمه لبيد بن الأعصم سحر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. فأثبته جماعة، وقالوا: ذلك جائز، فهو مرض من الأمراض التي تصيب الإنسان، وهو لم يُؤَثِّر عليه من ناحية تبليغ الرسالة والتزام أحكامها، وأوَّلوا قوله تعالى (واللهُ يَعْصِمُكَ مِن النَّاسِ) (سورة المائدة: 67) بعصمة القلب والإيمان دون الجسد، فقد شُجَّ وجهه وكُسرت رباعيته وآذاه جماعة من قريش. والجصَّاص من أئمة الحنفية قد نفى أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد سُحر، على الرغم من صحة الحديث، وذلك استنادًا إلى الآية، ولِعدم فتح الباب للطَّعن فيما بلَّغه من الرسالة.

وقد وضَّح ابن القيم ذلك في كتابه: “زاد المعاد” كما وضَّحه النووي في شرح صحيح مسلم بما يثبِت العِصْمَة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمور التبليغ، ويجيز تأثُّره بما يتأثر به الناس من الأمراض التي لا تُخِل بهذه العصمة.
وخلاصة ما في زاد المعاد( ج3 ص104): قد أنكر هذا طائفة من الناس وقالوا لا يجوز هذا عليه وظنوه نقصًا وعيبًا، وليس الأمر كما زعموا، بل هو من جِنْس ما كان يعتريه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأسقام والأوجاع، وهو مرضٌ من الأمراض، وإصابته به كإصابته بالسُّم لا فرق بينهما، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: سُحِر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى إن كان ليُخيَّل إليه أنه يأتي نساءه ولم يأتِهن، وذلك أشد ما يكون من السِّحر، قال القاضي عياض: والسِّحر مرضٌ من الأمراض، وعارض من العلل يجوز عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كأنواع الأمراض مما لا ينْكَر ولا يَقْدَح في نبوته، وأما كونه يُخيَّل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله فليس في هذا ما يُدخل عليه داخلة في شيء من صِدْقِه، لقيام الدليل والإجماع على عِصْمَته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طُروؤه عليه في أمر دنياه التي لم يُبعث لسببها ولا فُضِّل من أجلها، وهو فيها عُرْضَة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أنه يخيَّل إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان ا هـ.

هذا، وقد تأثَّر موسى عليه السلام بما فعله السحرة، فقال تعالى (يخيَّل إلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهِا تَسْعَى. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) وليس ذلك قادحًا في رسالته عليه السلام. ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى:
1 ـ تفسير الفخر الرازي وابن كثير والقرطبي في سورة البقرة والمعوِّذتين.
2 ـ زاد المعاد لابن القيم.
3 ـ مفتاح دار السعادة لابن القيم.
4 ـ حياة الحيوان الكبرى للدُّميري “مادة كلب”.