‏اختلف العلماء في معنى هذا الحديث , فقال الإمام أبو عبد الله المازري : احتج بعض الناس بهذا الحديث على أن التداوي مكروه , ومعظم العلماء على خلاف ذلك , واحتجوا بما وقع في أحاديث كثيرة من ذكره صلى الله عليه وسلم لمنافع الأدوية والأطعمة كالحبة السوداء والقسط والصبر وغير ذلك , وبأنه صلى الله عليه وسلم تداوى , وبإخبار عائشة رضي الله عنها بكثرة تداويه وبما علم من الاستشفاء برقاه , وبالحديث الذي فيه أن بعض الصحابة أخذوا على الرقية أجرا.

فإذا ثبت هذا حمل ما في الحديث على قوم يعتقدون أن الأدوية نافعة بطبعها ولا يفوضون الأمر إلى الله تعالى . قال القاضي عياض : قد ذهب إلى هذا التأويل غير واحد ممن تكلم على الحديث , ‏ ولا‏ يستقيم هذا التأويل وإنما أخبر صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء لهم مزية وفضيلة يدخلون الجنة بغير حساب , وبأن وجوههم تضيء إضاءة القمر ليلة البدر , ولو كان كما تأوله هؤلاء لما اختص هؤلاء بهذه الفضيلة ; لأن تلك هي عقيدة جميع المؤمنين , ومن اعتقد خلاف ذلك كفر . وقد تكلم العلماء وأصحاب المعاني على هذا ; فذهب أبو سليمان الخطابي وغيره إلى أن المراد : من تركها توكلا على الله تعالى ورضاء بقضائه وبلائه , قال الخطابي : وهذه من أرفع درجات المحققين بالإيمان قال : وإلى هذا ذهب جماعة سماهم , قال القاضي : وهذا ظاهر الحديث ومقتضاه أنه لا ‏ فرق بين ما ذكر من الكي والرقى وسائر أنواع الطب . وقال الداودي : المراد بالحديث الذي يفعلونه في الصحة فإنه يكره لمن ليست به علة أن يتخذ التمائم ويستعمل الرقى , وأما من يستعمل ذلك ممن به مرض فهو جائز .

وذهب بعضهم إلى تخصيص الرقى والكي من بين أنواع الطب لمعنى وأن الطب غير قادح في التوكل , إذ تطبب رسول الله صلى الله عليه وسلم والفضلاء من السلف . وكل سبب مقطوع به كالأكل والشرب للغذاء والري لا‏ يقدح التوكل عند المتكلمين في هذا الباب , ولهذا لم ينف عنهم التطبب , ولهذا لم يجعلوا الاكتساب للقوت وعلى العيال قادحا في التوكل إذا لم يكن ثقته في رزقه باكتسابه وكان مفوضا في ذلك كله إلى الله تعالى , والكلام في الفرق بين الطب والكي يطول , وقد أباحهما النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليهما , لكني أذكر منه نكتة تكفي وهو أنه صلى الله عليه وسلم تطبب في نفسه وطبب غيره , ولم‏‏ يكتو وكوى غيره , ونهى في الصحيح أمته عن الكي وقال : ” ما أحب أن ‏ أكتوي ‏ . هذا آخر كلام القاضي .  ‏
‏والظاهر من معنى الحديث ما اختاره الخطابي ومن وافقه كما تقدم , وحاصله : أن هؤلاء كمل تفويضهم إلى الله عز وجل فلم يتسببوا في دفع ما أوقعه بهم . ولا ‏ شك في فضيلة هذه الحالة ورجحان صاحبها . وأما تطبب النبي صلى الله عليه وسلم ففعله ليبين لنا الجواز .  ‏
‏وقوله صلى الله عليه وسلم : ( وعلى ربهم يتوكلون ) اختلفت عبارات العلماء من السلف والخلف في حقيقة التوكل , فحكى الإمام أبو جعفر الطبري وغيره عن طائفة من السلف أنهم قالوا : ‏‏ لا يستحق اسم التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله تعالى من سبع أو عدو حتى يترك السعي في طلب الرزق ثقة بضمان الله تعالى له رزقه , واحتجوا بما جاء في ذلك من الآثار . وقالت طائفة : حده الثقة بالله تعالى والإتقان بأن قضاءه نافذ واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما ‏لا ‏ بد منه من المطعم والمشرب والتحرز من العدو كما فعله الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم أجمعين . قال القاضي عياض : وهذا المذهب هو اختيار الطبري وعامة الفقهاء , والأول مذهب بعض المتصوفة وأصحاب علم القلوب والإشارات . وذهب المحققون منهم إلى نحو مذهب الجمهور , ولكن ‏‏ لا‏ يصح عندهم اسم التوكل مع الالتفات والطمأنينة إلى الأسباب , بل فعل الأسباب سنة الله وحكمته والثقة بأنه ‏لا يجلب نفعاولا يدفع ضرا ،والكل من الله تعالى وحده .

هذا كلام القاضي عياض قال الإمام الأستاذ أبو القاسم القشيري – رحمه الله تعالى – : اعلم أن التوكل محله القلب , وأما الحركة بالظاهر‏ فلا تنافي التوكل بالقلب بعد ما تحقق العبد أن الثقة من قبل الله تعالى , فإن تعسر شيء فبتقديره , وإن تيسر فبتيسره . وقال سهل بن عبد الله التستري رضي الله عنه : التوكل الاسترسال مع الله تعالى على ما يريد . وقال أبو عثمان الجبري : التوكل الاكتفاء بالله تعالى مع الاعتماد عليه . وقيل : التوكل أن يستوي الإكثار والتقلل . والله أعلم . ‏