لهذه العقيدة عنوان يلخصها أو شعار يعبر عنها هو: ” شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، هذه العقيدة هي التي تمثل وجهة نظر المسلمين إلى الكون ورب الكون، وإلى الطبيعة وما وراء الطبيعة، وإلى الحياة وما بعد الحياة، وإلى العالم المنظور والعالم غير المنظور، وبعبارة أخرى: إلى الخلق والخالق، وإلى الدنيا والآخرة، إلى عالم الشهادة وعالم الغيب.

فهذا الكون بأرضه وسمائه، بجماده ونباته، وحيوانه وإنسانه، وجنه وملائكته… هذا الكون لم يخلق من غير شيء، ولم يخلق نفسه، فلا بد له من خالق عليم قدير عزيز حكيم، خلقه فسواه، وقد قدر كل شيء فيه تقديرًا، فكل ذرة بميزان، وكل حركة فيه بمقدار وحسبان. وذلك الخالق هو الله، الذي تدل كل كلمة بل كل حرف في كتاب الوجود على مشيئته وقدرته، وعلمه وحكمته: (تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده) (الإسراء: 44).

هذا الخالق الأعلى هو رب السموات والأرض، رب العالمين، رب كل شيء، واحد أحد لا شريك له في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهو وحده القديم الأزلي وهو وحده الباقي الأبدي، وهو وحده الخالق البارئ المصور، له الأسماء الحسنى، والصفات العليا، لا ند له ولا ضد له، ولا ولد له، ولا والد، ولا شبيه ولا نظير..(قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد) (سورة الإخلاص كاملة).
(هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم) (الحديد: 3).
(ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير) (الشورى: 11).
وكل ما في هذا الكون العظيم، علويه وسفليه، صامته وناطقه، يدل على أن عقلاً واحدًا، هو الذي يدبر أمره، ويدًا واحدة هي التي تدير رحاه، وتوجه دفته وإلا اختل نظامه، وأفلت زمامه، واضطرب ميزانه، وتهدم بنيانه، تبعًا لما تقضي به الضرورة من اختلاف العقول المتباينة التي توجه، واختلاف الأيدي المتعددة التي تحرك.. وصدق الله العظيم إذ يقول: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فسبحان الله رب العرش عما يصفون) (الأنبياء: 22)، وقال جل شأنه: (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله، إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض، سبحان الله عما يصفون)
(المؤمنون: 91)، ويقول: (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرًا) .(الإسراء: 42-43).

فالحقيقة التي لا مراء فيها: أن كل من في السموات ومن في الأرض عبيد لله، وكل ما في السموات والأرض ملك لله، فليس أحد ولا شيء من العقلاء أو من غير العقلاء شريكًا لله، أو ولدًا له، كما يقول القائلون من الوثنيين وأشباه الوثنيين، (وقالوا أتخذ الله ولدًا، سبحانه، بل له ما في السموات والأرض، كل له قانتون بديع السموات والأرض، وإذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون) .(البقرة: 116-117).

ومن ضل عن هذه الحقيقة في الدنيا فسيكشف عنه الغطاء في الآخرة، ويرى الحقيقة عارية واضحة وضوح الشمس في الضحى: (إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدًا لقد أحصاهم وعدهم عدًا وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا) .(مريم: 93-95).
فلا عجب بعد ذلك أن يكون هذا الخالق العظيم، وهذا الرب الأعلى هو وحده الذي يستحق العبادة والطاعة المطلقة، وبعبارة أخرى” يستحق غاية الخضوع وغاية الحب، فالمعنى المركب من الخضوع كل الخضوع، الممزوج بالحب كل الحب، هو الذي نسميه العبادة
وهذا هو معنى “لا إله إلا الله” أي لا يستحق العبادة غيره.. أو لا يستحق كل الخضوع وكل الحب إلا هو.. فهو وحده الذي تخضع لأمره الرقاب، وتسجد لعظمته الجباه، وتسبح بحمده الألسنة، وتنقاد لحكمه القلوب والعقول والأبدان.
وهو وحده الذي تتجه إليه الأفئدة بالحب كل الحب، فهو المتفرد بالكمال كله، والكمال من شأنه أن يحب ويحب صاحبه، وهو مصدر الجمال كله، وما في الوجود من جمال فهو مستمد منه، والجمال من شأنه أن يحب ويحب صاحبه، وهو واهب النعم كلها، ومصدر الإحسان كله: (وما بكم من نعمة فمن الله) (النحل: 53)، والإحسان دائمًا يحب، والنعمة دائمًا تحب ويحب صاحبها.
معنى “لا إله إلا الله” هو رفض الخضوع والعبودية لكل سلطان غير سلطانه، وكل حكم غير حكمه، وكل أمر غير أمره، ورفض الولاء إلا له، والحب إلا له وفيه.

عناصر التوحيد الأساسية:
وإذا أردنا أن نزيد هذا المعنى إيضاحًا قلنا: إن عناصر التوحيد كما جاء بها القرآن الكريم، ثلاثة ذكرتها سورة الأنعام، وهي سورة عنيت بتثبيت أصول التوحيد:
أولها: ألا تبتغي غير الله ربًا: (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء)؟!.(الأنعام: 164).
وثانيها: ألا تتخذ غير الله وليًا: (قل أغير الله أتخذ وليًا فاطر السموات والأرض وهو يطعِم ولا يطعم) .(الأنعام: 14).
وثالثها: ألا تبتغي غير الله حكمًا: (أفغير الله أبتغي حكمًا وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً) .(الأنعام: 114).

العنصر الأول- ألا تبغي غير الله ربًا:
معنى العنصر الأول “ألا تبتغي غير الله ربًا”: إبطال الأرباب المزعومة التي اتخذها الناس قديمًا وحديثًا، في الشرق والغرب، سواء أكانت من الحجر والشجر أم من الفضة والتبر، أم من الشمس والقمر، أم من الجن والبشر، معنى العنصر الأول هو رفض لكل الأرباب إلا الله، وإعلان الثورة على المتألهين في الأرض المستكبرين بغير الحق، الذين أرادوا أن يتخذوا عباد الله عبيدًا لهم وخولاً.
” لا إله إلا الله ” هو الإعلان العام لتحرير الإنسان من الخضوع والعبودية، إلا لخالقه وبارئه، فلا يجوز أن تعنو الوجوه، أو تطأطئ الرءوس، أو تنخفض الجباه، أو تخشع القلوب، إلا لقيوم الأرض والسموات.

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يختم رسائله إلى الملوك والأمراء والقياصرة من النصارى بهذه الآية الكريمة: (…. يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) .(آل عمران: 64).

وكانت كلمة ربنا الله إعلانًا بالعصيان والتمرد على كل جبار في الأرض.
ومن أجل هذا تعرض موسى للتهديد بالقتل، وقام رجل مؤمن من آل فرعون يدافع عنه ويقول: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله)؟! .(غافر: 28).
ومن أجل ذلك تعرض رسولنا صلى الله عليه وسلم وأصحابه للاضطهاد والأذى والإخراج من الديار والأموال..(الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) .(الحج: 40).

العنصر الثاني- ألا تتخذ غير الله وليًا:
ومعنى العنصر الثاني ” ألا تتخذ غير الله وليًا” رفض الولاء لغير الله وحزبه، فليس من التوحيد أن يزعم زاعم أن ربه هو الله، ثم يتجه بولائه وحبه ونصرته لغير الله، وربما لأعداء الله. قال تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء) (آل عمران: 28).
إن حقيقة التوحيد لمن آمن بأن ربه هو الله: أن يخلص ولاءه لله ولمن أمر الله تعالى بموالاته، كما قال سبحانه: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) (المائدة : 55 -56) .
ومن هنا أنكر القرآن على المشركين أنهم قسموا قلوبهم بينه تعالى وبين الأنداد التي اتخذوها من الأصنام والأوثان، فجعلوا لها من الحب والولاء مثل ما جعلوا لله..(ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبًا لله) (البقرة: 165). إن الله تعالى لا يقبل الشركة في قلوب عباده المؤمنين، فلا يجوز أن يكون بعض القلب لله وبعضه للطاغوت، وأن يكون بعض ولائه للخالق، وبعضه للمخلوق .
إن الولاء كله والقلب كله يجب أن يكون لله، صاحب الخلق كله، والأمر كله، وهذا هو الفرق بين المؤمن والمشرك، المؤمن سلم لله خالص العبودية لله، والمشرك موزع بين الله وبين غير الله: (ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلمًا لرجل هل يستويان مثلاً، الحمد له، بل أكثرهم لا يعلمون) .(الزمر: 29)

العنصر الثالث- ألا تبتغي غير الله حكمًا:
ومعنى العنصر الثالث ” ألا تبغي غير الله حكمًا ” : رفض الخضوع لكل حكم غير حكم الله، وكل أمر غير أمر الله، وكل نظام غير نظام الله، وكل قانون غير شرع الله، وكل وضع أو عرف أو تقليد أو منهج أو فكرة أو قيمة لم يأذن بها الله. ومن قِبل شَيئًا من ذلك حاكمًا كان أو محكومًا، بلا إذن من الله وسلطان، فقد أبطل عنصرًا أساسيًا من عناصر التوحيد، لأنه ابتغى غير الله حكمًا، والحكم والتشريع الأعلى من حق الله وحده، لهذا قال سبحانه: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) .(يوسف: 40).
وهذا العنصر إنما هو في الواقع مقتضى إفراد الله تعالى بالربوبية والإلهية، فإن من اتخذ أحدًا من عباد الله شارعًا وحاكمًا، يأمر بما شاء، وينهى عما يشاء، ويحلل ما يريد ويحرم ما يريد، وأعطاه حق الطاعة في ذلك ولو أحل الحرام، كالزنى، والربا، والخمر، والميسر، وحرم الحلال: كالطلاق، وتعدد الزوجات، وأسقط الواجبات: كالخلافة، والجهاد، والزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة حدود الله وغيرها، من اتخذ مثل هذا حكمًا وشارعًا، فقد جعله في الحقيقة ربًا يطاع في كل أمر، وينقاد له في كل ما شرع، وهذا ما جاء به القرآن وفسرته السنة النبوية.. فقد جاء في سورة التوبة عن أهل الكتاب قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا، لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) .(التوبة: 31).
فكيف اتخذوهم أربابًا وهم لم يسجدوا لهم ولم يعبدوهم عبادة الأوثان؟
يجيب عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من قصة إسلام عدي بن حاتم الطائي، وكان قد تنصر في الجاهلية وقدم إلى المدينة، وتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقه صليب من فضه، وهو يقرأ هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله…) قال عدي: فقلت إنهم لم يعبدوهم! فقال صلى الله عليه وسلم: ” بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم ” .(رواه الترمذي وابن جرير من طريق غطيف بن أعين، ولم يوثقه غير ابن حبان، ولذا قال الترمذي: غريب. ولكن صح موقوفًا على حذيفة وغيره).

قال ابن كثير: وهكذا قال حذيفة بن اليمان، وابن عباس وغيرهما في تفسير: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) : أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا، وقال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، ولهذا قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا) أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام، وما حلله فهو الحلال، وما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ، لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون.
هذا هو مجمل معنى الكلمة الأولى من كلمتي الشهادة كلمة: “لا إله إلا الله ” ومقتضاه: ألا تبغي غير الله ربًا، ولا تتخذ غير الله وليًا، ولا تبتغي غير الله حكمًا، كما نطق القرآن العظيم في صريح آياته المحكمات