التقريب بين الأديان كلمة تطلق، ويراد بها أكثر من معنى، أو مفهوم. بعضها مرفوض، أو يجب أن يرفض، وبعضها مقبول، أو لا بأس أن يقبل.
المفهوم المرفوض للتقريب:
فأما المعنى أو المفهوم المرفوض للتقريب بين الأديان، فهو الذي يقصد به: إذابة الفوارق الجوهرية بين الأديان المختلفة بعضها وبعض، كما بين (التوحيد) في الإسلام و(التثليث) في النصرانية، وما بين (التنزيه) في العقيدة الإسلامية و(التشبيه) في العقيدة اليهودية.

ومن نتائج ذلك: اختلاف النظرة إلى المسيح عليه والسلام بين المسلمين والنصارى، فالنصارى –على اختلاف فرقهم ومذاهبهم_ يعتبرون المسيح إلها أو ابن إله، أو ثلث إله، أو عضوا في شركة ثلاثية من الآلهة: الأب والابن وروح القدس.

والمسلمون ينظرون إلى المسيح بوصفه رسولا من أولي العزم من الرسل، أنزل عليه الإنجيل فيه هدى ونور وموعظة للمتقين، وآتاه البينات، وأيده بروح القدس، وعلمه الكتاب والحكمة، ومنحه من الآيات الكونية والمعجزات الحسية ما لم يؤت غيره من الرسل، وذكر القرآن هنا من الآيات ما لم يذكر في الإنجيل، مثل أن يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن الله، ومثل المائدة التي أنزلت من السماء، وسميت باسمها (سورة المائدة).
ولكن المسيح –مع هذا- بشر رسول، وعبد رسول، دعا الناس إلى عبادة الله، لا إلى عبادة نفسه.
كما قال الله تعالى: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون}النساء:172
وقال سبحانه: {ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، وأمه صديقة، كانا يأكلان الطعام}المائدة:75 ومن ضرورة أكل الطعام: الإفراز، فكيف يكون مثله إلها؟!

ومن هنا خاطب القرآن النصارى بقوله:{يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق، إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فآمنوا بالله ورسله، ولا تقولوا: ثلاثة، انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد، سبحانه أن يكون له ولد، له ما في السموات وما في الأرض، وكفى بالله وكيلا}النساء:171

كما أن من الفوارق الأساسية بين المسلمين وأهل الكتاب:أن كتاب المسلمين (القرآن) محفوظ من كل تغيير وتبديل، بضمان الله تعالى ووعده الذي لا يخلف: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} الحجر:9. ولا عجب أن يحفظه عشرات الألوف من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، حتى أن الأعاجم ليحفظونه ما يخرمون منه حرفا، وأكثرهم لا يعرفون معنى كلمة مما يحفظونه.

بخلاف التوراة والإنجيل، اللذين قامت الأدلة على وقوع التحريف فيهما بالحذف والزيادة والتغيير، وهذا لم يقله علماء المسلمين وحدهم، بل قاله كثيرون في عصرنا الحديث من علماء الغرب أنفسهم، من يهود ونصارى على اختلاف نحلهم.

وهذا التحريف قد أدى إلى تغيير صفات الألوهية في التوراة التي يؤمن بها الفريقان: اليهود والنصارى جميعا-حيث وصف الإله بما لا يليق بكماله: من الجهل والعجز والحسد والندم، كما يتجلى ذلك له في (سفر التكوين) من أسفار التوراة الخمسة، وهذا فارق جوهري بيننا وبين القوم من يهود ومسيحيين: فنحن نصف الله تعالى بكل كمال، وننزهه عن كل نقص، وهم لا يبالون أن يصفوا الله بنقائص البشر.

وأدى هذا التحريف لذلك إلى تغيير سورة (النبوة الهادية)، فوصف الأنبياء الكرام، والرسل العظام بما لا يليق بكمالهم البشري، حيث هيأهم الله تعالى ليحملوا رسالته وهدايته إلى البشر: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}الأنعام:124

ولهذا نؤمن نحن المسلمين بعقيدة (عصمة الأنبياء) من الخطايا والرذائل التي تنافي تكليفهم هداية البشر، وتنفر الناس منهم، وتجعلهم عرضة للانتقاد: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم}البقرة:44

فلا يجوز التقريب بين الأديان بمحاولة مفتعلة وممجوجة لتذويب الفوارق الجوهرية فيما بينها، فلا نحن نقبل هذا، ولا هم يقبلونه.

ولهذا نرى أن كل دعوة تقوم على أساس التنازل عن أمر من الأمور الجوهرية في الدين، سواء كانت في العقائد أم في العبادات، أم في أمر الحلال والحرام ونحوه من أمور التشريع الأساسية للفرد أو للأسرة أو للمجتمع، إنما هي دعوة مرفوضة شرعا.

المفهوم المقبول للتقريب: وأما المفهوم المقبول للتقريب بين الأديان –وخصوصا السماوية منها، فيراد به التقريب بين أصحاب الأديان في ضوء الحقائق التالية:

1ـ الحوار بالتي هي أحسن:

فنحن –المسلمين- مأمورون -من ربنا وبنص قرآننا- بجدال المخالفين بالتي هي أحسن. وهذا الجدال أو الحوار بالتي هي أحسن هو إحدى وسائل الدعوة التي أمر بها القرآن في قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن}النحل: 125 فالموافقون لك في الدين تدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة، أي بما يقنع العقول، وما يحرك القلوب والعواطف.. والمخالفون يجادلون بالتي هي أحسن. بمعنى إنه لو كانت هناك طريقتان للحوار: طريقة حسنة، وطريقة أحسن منها وأجود، فالمسلم مأمور أن يستخدم الطريقة التي هي أحسن وأمثل. وقد اكتفى القرآن مع الموافقين بأن تكون الموعظة حسنة، ولم يرض مع المخالفين إلا أن يكون الجدال بالتي هي أحسن.

وقد نص القرآن على ذلك في خصوص أهل الكتاب، فقال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم}العنكبوت: 46
ومن أجل ذلك أفضل أن يكون عنوان الدعوة (الحوار بين الأديان) وليس (التقريب) لأنها تفهم خطأ والتركيز على القواسم المشتركة.

2- التركيز على القواسم المشتركة بيننا وبين أهل الكتاب:

ولهذا جاء في تتمة الآية السابقة في مجادلة أهل الكتاب: {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}
ففي مجال التقريب والحوار بالتي هي أحسن: ينبغي ذكر نقاط الاتفاق، لا نقاط التمايز والاختلاف.

وهناك من المسلمين المتشددين من يزعم أنه لا توجد بيننا وبين اليهود والنصارى أية جوامع مشتركة، ما دمنا نحكم عليهم بالكفر، وأنهم حرفوا وبدلوا كلام الله.

وهذا فهم خاطئ للموقف الإسلامي من القوم. فلماذا أباح الله تعالى مؤاكلتهم ومصاهرتهم؟ وكيف أجاز للمسلم أن تكون زوجته وربة بيته وأم أولاده كتابية؟ ومقتضى هذا: أن يكون أجداد أولاده وجداتهم، وأخوالهم وخالاتهم وأولادهم من أهل الكتاب؟ وهؤلاء جميعًا لهم حقوق ذوي الرحم وأولي القربى.

ولماذا حزن المسلمون حين انتصر الفرس –وهم مجوس يعبدون النار- على الروم، وهم نصارى أهل الكتاب؟ حتى أنزل الله قرآنا يبشر المسلمين بأن الروم سينتصرون في المستقبل القريب، {يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله}الروم:4،5 كما جاء في أول سور الروم.
وهذا يدل على أن أهل الكتاب –وإن كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم– أقرب إلى المسلمين من غيرهم من الجاحدين أو الوثنيين.

3ـ التعاون لمواجهة الإلحاد والإباحية:
الوقوف معا لمواجهة أعداء الإيمان الديني، ودعاة الإلحاد في العقيدة، والإباحية في السلوك، من أنصار المادية، ودعاة العري، والتحلل الجنسي والإجهاض والشذوذ الجنسي، وزواج الرجال بالرجال، والنساء بالنساء.

فلا مانع أن نقف مع أهل الكتاب في جبهة واحدة، ضد هؤلاء الذين يريدون دمار البشرية بدعاواهم المضللة، وسلوكياتهم الغاوية، وأن يهبطوا بها من أنق الإنسانية إلى درك الحيوانية: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه، أفأنت تكون عليه وكيلا، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون، إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا}الفرقان:43،44.
وقد رأينا الأزهر ورابطة العالم الإسلامي والفاتيكان يقفون في (مؤتمر السكان) في القاهرة سنة 1994م وفي مؤتمر المرأة في بكين سنة 1995م في صف واحد، لمواجهة دعاة الإباحة.

4- مناصرة قضايا العدل والشعوب المستضعفة:

الوقوف معا لنصرة قضايا العدل، وتأييد المستضعفين والمظلومين في العالم، ومساندة الشعوب المقهورة ضد الظالمين والمستكبرين في الأرض بغير الحق، الذين يريدون أن يتخذوا عباد الله عبادا لهم.
فالإسلام يقاوم الظلم، ويناصر المظلومين، من أي شعب، ومن أي جنس، ومن أي دين.
والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر حلف الفضول الذي شارك فيه في شبابه في الجاهلية، وكان حلفا لنصرة المظلومين، والمطالبة بحقوقهم، ولو كانت عند أشراف القوم وسراتهم.
وقال عليه الصلاة والسلام: “لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت”.

5 ـ إشاعة روح التسامح لا التعصب:
ومما ينبغي أن تتضمنه هذه الدعوة: إشاعة روح السماحة والرحمة والرفق في التعامل بين أهل الأديان، لا روح التعصب والقسوة والعنف.
فقد خاطب الله تعالى رسوله محمدًا بقوله:{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء: 107
وقال عليه الصلاة والسلام عن نفسه “إنما أنا رحمة مهداة ”
وذم بني إسرائيل بقوله:{فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية} المائدة: 13 وفي موضع آخر قال في مخاطبتهم:{ثم قست قلوبكم من بعد ذلك، فهي كالحجارة أو أشد قسوة}البقرة: 74
وقال لزوجه عائشة:” إن الله يحب الرفق في الأمر كله” ” ما دخل الرفق في شيء إلا زانه ، ولا نزع من شيء إلا شانه” “إن الله يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف” .

ولا تتنافى روح التسامح والرحمة والرفق في معاملة أهل الكتاب ما يعتقده المسلم من كفرهم بدين الإسلام، وأنهم على ضلال.
وهناك عناصر أخرى تخفف من هذا الأمر في فكر المسلم وضميره.
1- أنه يعتقد أن اختلاف البشر في أديانهم: واقع بمشيئة الله تعالى، المرتبطة بحكمته. كما قال تعالى:{ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم} هود: 118، 119 أي خلقهم ليختلفوا مادام قد منحهم العقل وحرية الإرادة.

2- أن الحساب على ضلال الضالين، وكفر الكافرين ليس في هذه الدنيا، ولكن في الآخرة، وليس موكولاً إلينا ولكن إلى الله الحكم العدل، واللطيف الخبير. كما قال تعالى لرسوله:{فلذلك فادع، واستقم كما أمرت، ولا تتبع أهواءهم، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا، وإليه المصير} الشورى: 15

3- اعتقاد المسلم بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان. وفي هذا روى البخاري عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم مروا عليه بجنازة، فقام لها واقفًا، فقالوا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي! فقال: “أليست نفسًا؟” بلى فما أعظم الموقف، وما أروع التعليل!!

4- إيمان المسلم بأن عدل الله لجميع عباد الله، مسلمين وغير مسلمين، كما قال تعالى:{ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى} المائدة: 8 وبهذا لا يتحيز المسلم الحق لمن يحب، ولا يحيف على من يكره. بل يؤدي الحق لأهله، مسلمًا أو غير مسلم، صديقًا أم عدوًا.

والله تعالى أعلم.