هذه الأشياء التي أراد الله عز وجل أن يذكرها إجمالا دون تفسير، ولم يوضحها النبي صلى الله عليه وسلم ويشرحها في سنته شرحا وافيا فليس لنا أن نرخي العنان لخيالنا كي يسرح فيها بغير برهان ، أو يقضي فيها بغير سلطان ، ولكننا مأمورون بالإيمان بها إجمالا وترك التفصيل والتفسير لله عز وجل لأنها لا ينبني عليها عمل ولسنا مكلفين بأن نعرف شيئا غيبيا لم يخبرنا به الله عز وجل ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.

يقول في هذه المسألة فضيلة الشيخ المرحوم محمود شلتوت ـ رحمه الله ـ
الواقع أن هذه الدابَّة قد قيل في شأنها أكثر مِن ذلك، وعملتْ فيها الروايات والآثار عمَلها المَعروف في كل أمر غيبيٍّ أخبر به القرآن، ولم يتصل به بيانٌ قاطع عن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ قيل ذلك في حقيقتها، وقيل في صِفَتِهَا، ومن أغرب ما قيل في حقيقتها أنها إنسان، وأنه عليٌّ ـ رضي الله عنه.

وقيل: إنها ولد ناقة صالحٍ، فرَّ هاربًا حينمَا عقَر القومُ أُمَّهُ، انفتحت له في طريقه صخرةٌ فدخلها ثم انطبقت عليه، فهو في باطنها إلى أن يخرج قُرب يوم القيامة. وقيل: إنها دابَّة قديمة خُلقت في عهد الأنبياء المُتقدمين، وإنَّ موسى سأل ربه أن يُريه إيَّاها، فأخرجها ثلاثة أيام ولياليهم، تذهب في السماء لا يرى واحدٌ مِن طرَفَيْهَا، فرأى ـ عليه السلام ـ منظرًا فظيعًا، فقال: يا رب رُدَّهَا فَرَدَّهَا أو إنها هي الثعبان الذي كان في جوْف الكعبة، واختطفتْه العُقاب حين أرادت قريش بناء البيت الحرام فمَنَعَهُمْ، فأَلْقَتْهُ العُقاب بالحُجونِ، فالْتَقَمَتْهُ الأرضُ، وهو في باطنها حتى يخرج يوم القيامة.

ومِن أغرب ما قيل في صفة الدابَّة أن طولها سُتون ذراعًا بذراع آدمَ ـ عليه السلام ـ لا يُدركها طالبٌ ولا يَفُوتُها هاربٌ، وأن لها مع جميع دوابِّ الأرض مُشابهة تامَّة في عضو من أعضائها، فلَها وجهُ إنسان ورأْس ثورٍ، وعيْن خنزير، وأُذُنُ فِيلٍ “إلى آخر ما سُوِّدت به الصحف، وضاع الوقت في نقْله”. وهي (أيْ عبارة: “ما سُودت به الصحف، وضاع الوقت في نقله”). كلمةُ حقٍّ قالها أحدُ المُفسرين ونقلها الآلوسي في تفسيره، وأقرَّها، وقال مُعتذرًا عن ذِكْرِه شيئًا من أخبارها: “وإنما نقلتُ بعض ذلك دفعًا لشهْوةِ مَن يُحب الاطلاع على شيء مِن أخبارها صِدْقًا كانَ أو كَذِبًا”.

وقد تتَبَّعَ بعض المفسرين غرائب الأخبار التي ليس لها سندٌ صحيح، وأغدقوا من شرِّها على الناس وعلى القرآن؛ وكان جديرًا بهم أن يُقيموا بينها وبين الناس سَدًّا يَقِيهِمُ البَلْبَلَةَ الفكرية فيما يتصل بالغيْب الذي استأثر الله بعِلْمِهِ، ولم يَرَ فائدةً لعباده في أن يُطلعهم على شيءٍ منه. وإذا كان للناس بطبيعتهم وَلَعٌ بسماع الغرائب وقراءتها، فما أشدَّ أثرها في إلْهائهم عن التفكير النافع فيما تضمَّنه القرآن مِن آيات العقائد والأخلاق وصالِح الأعمال!

والذي أُحبُّ أن أُقَرِّرَهُ هنا ـ بهذه المناسبة فيما أَخبر الله به من شُئون الغيب التي لم يتصل بها بيانٌ قاطع عن الرسول مِن الدابَّة، والصُّور، ونحوهما ـ هو:
-أنَّا نُؤمن به على القدْر الذي أخبر اللهُ به دون صَرْفٍ للفظ عن معناه، ودون زيادة عمَّا تضمَّنه الخبر الصادق: فنُؤمن ـ مثلًا ـ بأنه سيكون في آخر الدنيا صُورٌ يُنفخ فيه، فتكون صَعْقَةً، ثم يُنفخ فيه أُخْرى، فيكون البعث؛ أمَّا الخَوْض في حقيقته ومقداره وكيفية النفْخ فيه، أو حَمْله على أنه تَمثيل لسرعة إفناء العالَم وبعثه بسرعة النَّفْخ المعروفة للناس، فإنه رجْمٌ بالغيب، وتَقَوُّلٌ على الله بغير حق.

-ونُؤمن بأن القرآن ـ كما أخبر الله ـ في لوحٍ مَحفوظ، أما الخوْض في حقيقته أو تأويله بأنه تمثيل لِصَوْنِهِ عن التغيير والتبديل؛ فإنه رجمٌ بالغيب، وتقوُّل على الله بغير حق.

وعلى هذا، بالنسبة إلى الدابَّة ـ نؤمن بأنه حينما يقع أمر الله، وتَحِقُّ كلمته، ويأتي اليوم الذي لا ينفع فيه نفسًا إيمانُها لم تكنْ آمنتْ مِن قبلُ ـ ستظهر للناس دابَّة، ولكن: هل تتولد مِن الأرض، أم هي مِن دوابِّها؟ ذلك يعلمه الله. وهل هي صغيرة أم كبيرة، وعرْضها كذا وطولها كذا.

وهل تحمل معها عصا موسى، وخاتم سليمان أم لا تحمل شيئًا؟ ذلك يعلمه الله؛ نُؤمن فقط أن دابةً ستخرج وتُكلم الناس، هل تكلمهم بلسان عربي ذلق، أو بغيره؟ كذلك هذا يعمله الله؛ نؤمن بها وبكلامها دون استبعاد أو إنكار.

وقد قصَّ الله علينا في السورة نفسها أن عصا موسى وهي جماد تحرَّكت واهتزَّت كأنها جانٌّ، وأنها تلَقَّفَتْ ما كانوا يأفِكون، وقصَّ علينا أن الحيوان الذي ليس من شأنه أن ينطق ولا أن يعبر عن الإيمان والكُفر، كالهدهد، نطق وعبَّر عن الإيمان والكفر، وأن نبيَّ الله سليمان فهِم منه كل ما أراد، وانتفع برحلته التي قام بها من تلقاء نفسه إلى ملِكة سبأ.

وإذا كانت الجَمادية تلحقها في الدنيا بسُنن الله الخاصية الحيوانية فتتحرك وتبتلع، والحيوانية كذلك تلحقها بالسُّنن الخاصية الناطقية فتُفكر وتُدبر وتنطق وتُعبر، فما بالنا بالنشأة الأُخرى التي لا سَبيل لنا إلى معرفتها، ولا معرفة أحداثها، ولا سُنن الله فيها إلا بالخبر الصادق عنه سبحانه؟ وإذا كانت الأسلاك تهتز بأنباء رؤية مَن رفعه الله إليه عن طريق اليَقَظة، وبأنباء تكوُّن الجنِين بأحد العُنصرين اللذينِ لابدَّ منهما في تكوُّنه بحَسب السنن العامة في الدنيا، ثم تَنال تلك الأنباء التأييد والتصديق، فما الذي يدعو إلى الإنْكار، أو الاستبعاد، أو التأويل لمَا يتضمَّنُه كلام الله الذي قام ألفُ دليلٍ ودليل على صِدْقِهِ، بالقياس إلى نشأةٍ تقع بظاهرها وباطنها في قبْضة الله وحده الذي ينطق كل شيء؟

نعم. يجب الوقوف في الإيمان عند الحدِّ الذي جاء به الخبر الصادق، ولا ينبغي التصرُّف فيه بالحمل على التمثيل، أو الزيادة عليه، وضمِّ شيءٍ إليه، فضلًا عن استبعاده أو إنْكاره؛ وهذا هو شأن المُؤمنين بالله، وبكتابه وغيْبه.