لقد نشط البَحث عن الحياة في الكواكب الأخرى خلال الأربعين سنة الماضية، واستُخدمتْ منذ ثمان عشرة سنة الموجات اللاسلكيّة لهذا الغرض، ومنذ ستة أعوام اهتم الفلكيّون بالتسمّع على الكون لالتقاط الإشارات الصادرة منه، وذلك في مختبر الدّفع النفاث في ” باسادونا ” ومركز الأبحاث ” آميس ” التابع لمؤسّسة ” ناسا ” بكاليفورنيا . ومؤسسة ” سيتي ” وهى رمز لمشروع البحث عن المخلوق الذكي الموجود خارج الأرض، والذي يضمُّ أكثر من مليون يدٍ عاملة تعاون فيه الخُبراء الأمريكيّون والرّوس على تحليل ألف ساعة من الإشارات التي تَمّ استقبالها من الفَضاء الخارجي بأجهزة إليكترونيّة معقّدة وشديدة الحساسيّة .
وقد قرّروا أنه لا يتمُّ لهم النّجاح إلا إذا استطاعوا إرسال إشارة يُمكن للعالَم الخارجي التقاطُها . لكن النجوم الهائلة العددِ لا يمكن أن تسلَّط أشعة على نجم منها مرة ثانية إلا بعد مرور مائة ألف عام على المرة الأولى، وهذا كله في نجوم مَجَرّتِنا فقط ” التبانة ” فكم من الزمن يكفي لتسليط أشعة على نجوم المَجَرّات الأخرى وما أكثرَها ؟
ذكرتُ هذه المقدِّمة لترى أيها القارئ أن سَعة الكون وتعدُّد نجومه والاكتفاء مرة واحدة بتسليط الأشعة على كل نجم، كل ذلك لا يكفي للاعتقاد أو غلبة الظَّنِّ أن في الكون حياة من جنس حياتنا البشريّة، أو من جنس آخر .
ومهما يكن من شئ فإن هذه الأبحاث متروكة لعقل الإنسان، وموقف الإسلام منها موقِف المشجِّع على النظر في ملكوت السَّموات والأرض، ونصوصه أشهر من أن تُذكر، والإنصاف في البحث سيؤدِّي إلى تعميق الإيمان بالله، كما قال سبحانه في ختام الآيتين اللتين تتحدّثان عن النظر في الكون أرضه وسمائه بمائه ونباته ومعادِنه وحيوانه وإنْسانه ( إنّما يَخشَى اللهَ مِنْ عِبادِه العُلماءُ ) (سورة فاطر: 27) .
والقرآن يكفيه أن يضَع دستور البحث ويشجِّع عليه، وليس من شأنه أن يدوِّن جزئيات العلوم في أكثرها، وعلى امتداد الحياة البشريّة ستُكشَف أمور تتطلّبها حاجة الإنسان في نموِّه المُطَّرِد، وما دام الله هو الحقَّ، وهو خالِق العالم على هذا النظام البديع فإن كلامه لا يتعارَض مع قوانينه أبدًا، وإذا توصّل الباحِثون إلى ما يوهِم التعارُض مع القرآن فلا يجوز أن نسرِع بالشَّكِّ أو التأويل ما دامت النتائج لم تصل إلى مَرتبة الحقائق العلميّة التي لا يتطرّق إليها الشّكُّ، ولست موافِقا على مَسلك بعض الكُتّاب الذين يُسرعون إلى الربط بين القرآن والعلم كلّما لاح في الأفق كشف جديد، وقد يُسرفون في التأويل والتوفيق ثم تُظهر البحوث التالية فساد ما سبق من نتائجَ ظَلمْنا القرآن بحمل آياتِه عليها. ومع إحسان ظنِّي بأن كثيرًا من الباحثين عندهم غَيرة دينيّة حملتهم على هذا الربط فإني أدعوهم إلى التّريث، أو إلى جعل الأمر مَحلّ الاحتمال بعيدًا عن القَطع والجَزم به .
والمفسِّرون للقرآنِ سَلكوا في مثل هذه المواقِف مسلك الحَيطة والحَذر فلجؤوا إلى القول بالاحتمال وعدم المانع، يقول النسفي في قوله تعالى ( ومِنْ آياتِه خَلْقُ السّمواتِ والأرضِ وما بثَّ فيهما مِنْ دَابّة وهو على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشاءُ قَديرٌ ) . الدابّة تكون في الأرض وحدها،لكن يجوز أن يُنسَب الشّيء إلى جميع المذكور ـ أي السموات والأرض ـ وإن كان مُتلبِّسا ببعضٍ، كما يقال : بنو تميم فيهم شاعِر مجيد، وإنما هو في فَخِذ من أفخاذِهم، ومنه قوله تعالى ( يَخْرُجُ مِنهمَا اللّؤلؤُ والمَرْجانُ ) وإنّما يخرُج من المِلح، ولا يبعد أن يخلقَ في السّمواتِ حيوانات يمشُون فيها مشي الأناسي على الأرض ويكون للملائكة مشي مع الطيران، فوصفوا بالدَّبيب كما وصف الأناسي أهـ .
انظر إلى قوله : ولا يبعد أن يخلقَ في السّموات حيوانات .. هذا هو الموقف العلمي الصحيح من كُلّ ما لا يَجزِم له الإنسان، فإذا تحقّق أن في السموات كائناتٍ حية فظاهِر الآية (وما بثَّ فِيهما مِنْ دَابّة) تحقّق أنّ في السّمواتِ كائنات حيّة فظاهر الآية (وما بثّ فيهما من دابّة) لا يتعارَض مع هذه الحقيقة، وإذا لم يتحقّق وجود كائنات حيّة فيها فالآية باقية على معناها على النّحو الذي وضّحه المُفَسِّر من أن النّسبة إلى الجزء نسبة إلى الكُلِّ، وهو أسلوب معروف عند العرب الذين نزل القرآن بلغتهم، ففي مجموع السماوات والأرض دواب، وفي مجموع المياه العذبة والملحة لؤلؤ ومرجان . وإن كانت الدوابُّ في الأرض واللؤلؤ والمَرجان من البحر المِلِحّ .
وبعد، فإن الموضوع ليس عقيدة نحاسَب عليها، ولا يترتّب على الجَهْلِ بها شَئ، ونحن لم نحلّ مشاكِلَ الأرض ولم نأتِ على نهاية العِلم بأسرارِها حتّى نَهتَمّ بأسرارِ الكائنات العُليا، ويَكفينا أن القرآنَ وهو أصدق خَبر يحدّثنا عمّا يُهِمُّنا منها، والقرآن كلام الله لا يأتيه الباطِل من بين يديه ولا من خلفه، فإن وُجِدَ كَشْفٌ جديد يَزيدنا يقينًا بصدقِه فذاك وإلا فهو صادِق على الرّغم من عجزنا نحن ” لَكِنِ اللهُ يَشهَدُ بما أُنْزِلَ إِليْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ والمَلائِكةُ يَشهدونَ وكَفَى باللهِ شَهيدًا ” .