التلقيح الصناعي إذا كان بماء الرجل لزَوجه لا إثم فيه ولا حرج ، أما إذا كان بماءِ رجلٍ أجنبيٍّ عن المرأة لا يربط بينهما عقد زواج فإنه جريمةً مُنكرةً ، وإثم عظيم يلتقِي مع “الزنا” في إطار واحد ، ولولا قُصور في صورة الجريمة لكان حُكم التلقيح في تلك الحالة هو حُكم الزِّنَا الذي حدَّدته الشرائع الإلهية، ونزلت به كتب السماء.

يقول فضيلة الشيخ محمود شلتوت -رحمه الله-:

مِن المعلوم أن تَخَلُّقَ الولد إنما هو مِن السائل المَنَوِيِّ الذي يَخرجُ مِن الرجلِ فيَصِل إلى الرَّحِمِ المُستَعَدِّ للتفاعُل (خُلِقَ مِن مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرَائِبِ). (الآية: 6 ـ 7 من سورة الطارق). (إنَّا خَلَقْنَا الإنْسانَ مِن نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ). (الدهر: 2).

يتخلَّق الولد مِن هذا السائل متَى وصلَ إلى الرَّحِم المُستعد للتفاعل، وإن لم يكن وُصوله عن طريق الاتصال الجسماني المعروف، وهذا قد عرفه الناس جميعًا، وعرفه فقهاؤنا، وجاء في كلامهم: “إن الحَمْلَ قد يكون بإدْخال الماء للمحلِّ دون اتِّصالٍ”. عرَّفُوه هكذا ورتَّبوا عليه وُجوب العِدَّةِ، وهي مدة يبعد فيها الزوْج عن زوجته حتى تعرف براءةَ رحِمها من الحمل في حالة يصِل فيها إلى المرأة ماء أجنبيٌّ عنها.

قالوا: “إذا أدخلتِ المرأةُ مَنِيًّا ظنَّتْهُ مَنِيَّ زوجها ثم تبيَّن أنه ليس لزوجها، فعليها العِدَّةُ كالمَوطوءة بشُبْهة” وقد جاء ذلك الفرض في كتب الشافعية، وقال صاحب البحر مِن كتب الحنفية: ولم أرَهُ لأصحابنا، والقواعد لا تأْبَاهُ؛ لأن وُجوب العِدَّةَ لِتَعرُّفِ براءةِ الرحِم.

وهذا صريح في اعترافهم أن وُصول الماء عن غير الطريق المُعتاد قد يكون وسيلةً لشغْل الرحم بالجنين، وهو يتضمن تقرير المبدأ المعروف في تكوُّن الطفل من الماء الحيوي دون حاجة إلى العملية الجنسية. وما الاتصال الجِسماني إلا وسيلةً مُعتادة، لا يتوقَّف عليها تكوُّن الولد الذي هو من الماء المُستكمِل مُؤهلاته الطبيعية.

والواقع أن التلقيح الصناعي، وقصْد التوليد عن طريقه، قد أُلهمه الإنسان من قديم وعرفه من فجْر حياته في الحيوان والنبات، واستخدمه فيهما، وظهر له فعلًا نجاحه، وحصل منه على أنواع حسنة من الحيوان، وعلى ثمار جيدة من النبات. وقد دفعه ذلك إلى إجراء التجارِب التلقيحية الصناعية في المرأة بماء الرجل، وفعلًا نجحت هذه التجارب أيضًا، وتكوَّن بالتلقيح الصناعي الجنينُ، واستكمل حياته الرحِميَّة، وخرج إنسانًا سَوِيَّ الخَلْق مُكتملَه. غير أن قصد الإنسان من التلقيح الصناعي البشري لم يكن على نحوٍ قصده من التلقيح في الحيوان والنبات، فلم يكن مِن أهدافه أن يحصل به على نسْل إنسانيٍّ أحسنَ وأقوى، كما هو الشأن في الحيوان والنبات، وإنما كان القصد علميًّا أوَّلاً وقبل كل شيء. ثم بعد أن تبيَّن نجاحُه علمًا وعملًا، اتُّخِذَ سبيلًا لتحقيق رغبة الولد بالنسبة للزوجين اللذين ليس لهما ولدٌ؛ وذلك كيْ يقف عندهما الإحْساس بالعُقم أو يزول، وبذلك يستويانِ بغيرهما، ويَشعرانِ في هذه الحياة بزِينة الأُبُوَّةِ والأُمومة للأبناء.

وإنْ كان ذلك لا يخرج عن حدِّ التعلُّل النفسي بصورة الأُبوة والبنوة‍‍!! ثم توسَّع فيه بعض أرباب الآراء الفلسفية واتَّخذوا منه ـ بالتفلسُف الإنساني ـ سبيلًا لتكثير سواد الأمة وعدد أفرادها لمُجرد الرغبة في التوسُّع البشري، أو تحصيلًا لعِوَضٍ عمَّنْ تُهلكهم الحروب الطاحنة ، وبهاتينِ الرغبتينِ اللتينِ بعثتهما “الفلسفة المادية” كان التلقيح الصناعي في الإنسان أمرًا مشروعًا عند أرباب تلك الفلسفة الجافَّة. وبهما ساوى عندهم في المشروعية وعدم الإنكار والتأفُّف التلقيحَ الصناعي في الحيوان والنبات.

المستوى الإنساني يأبَى التلقيح:

ولقد كان جديرًا بأرباب هذه الفلسفة الذينَ سوَّوا بآرائهم التلقيح في الإنسان بالتلقيح في الحيوان والنبات، كان جديرًا بهم أن يذكروا أن الإنسان ـ وهُم من أفراده ـ له مُجتمعات، شعوب وقبائل، تتكون مِن أفرادٍ تَنتظمها سلسلةٌ واحدة، تُعرَف بها وتنتسب إليها، وأنهم بإنسانيتهم ليسوا كأفراد الحيوان والنبات التي تظلُّ مُفكَّكة الحياة لا يجمعها رباطٌ، ولا تشعر في حياتها بالحاجة إلى الرِّباط، وهذه خاصة الحيوان والنبات. وتلك خاصة الإنسان، وليس مِن ريبٍ في أنهم إذا ذكروا هذه، ورجعوا إلى أنفسهم وشُعورهم لأَدْركوا أن للإنسان حياةً هي أرقى من حياة الفرد نفسه، وهي حياة تلك المُجتمعات التي تخضع لقوانينَ بشريةٍ، وشرائع سماوية، تُلَبِّي داعِيَ الفِطْرة الإنسانية في ذلك، ويرتبط بها الإنسان في تصرُّفاته وسُلوكه، وانتظامه في مُجتمعاته. ولعل الزواج وإعلانه ـ وهو شأن فطري ـ كان أهم الشئون التي تخضع المُجتمعات، لحُكمها، وترتِّب عليه آثارًا مُعيَّنةً معروفة فيما يتعلق بحياة الأسرة ونسَب الأبناء.

حكم الشريعة في التلْقيح:

ومن هنا نستطيع أن نُقَرِّرَ ـ بالنسبة لحُكم الشريعة في التلقيح الصناعي الإنساني ـ أنه إذا كان بماء الرجل لزَوجه كان تَصرُّفًا واقعًا في دائرة القانون والشرائع التي تخضع لحُكمها المُجتمعات الإنسانية الفاضلة، وكان عملًا مَشروعًا لا إثم فيه ولا حرج، وهو بعد هذا قد يكون في تلك الحالة سبيلًا للحصول على ولد شرعي، يُذْكَر به والِداهُ وبه تمتدُّ حياتهما وتكمل سعادتهما النفسية والاجتماعية، ويَطمئنانِ على دوام العِشْرَةِ وبقاء المودَّة بينهما.

أما إذا كان التلقيح بماءِ رجلٍ أجنبيٍّ عن المرأة ـ لا يربط بينهما عقد زواج “ولعل هذه الحالة هي أكثر ما يُراد مِن التلقيح الصناعي عندما يتحدث الناس عنه” ـ فإنه يَزِجُّ بالإنسانِ دون شكٍّ في دائرتَيِ الحيوان والنبات، ويُخرجه عن المستوى الإنساني، مستوى المجتمعات الفاضلة التي تَنْسُجُ حياتَها بالتعاقُد الزوجي وإعلانه.

التلقيحُ والزِّنَا:

وهو في هذه الحالة ـ بعد هذا وذاك ـ يكون في نظر الشريعة الإسلامية، ذات التنظيم الإنساني الكريم، جريمةً مُنكرةً، وإثمًا عظيمًا. يلتقِي مع “الزنا” في إطار واحد: جوهرهما واحد، ونتيجتهما واحدة، وهي وضْع ماء رجلٍ أجنبي قصدًا في حرْثٍ ليس بينه وبين ذلك الرجل عقدُ ارتباط بزوجيّة شرعية، يُظلها القانون الطبيعي، والشريعة السماوية. ولولا قُصور في صورة الجريمة لكان حُكم التلقيح في تلك الحالة هو حُكم الزِّنَا الذي حدَّدته الشرائع الإلهية، ونزلت به كتب السماء.

التلقيح أفظْع جُرْمًا من التَّبَنِّي:

وإذا كان التلقيح البشري بغير ماء الزوج على هذا الوضع، وبتلك المنزلة، كان دون شكٍّ أفظعَ جُرْمًا وأشد نُكرانًا من “التبني” في أشهر معناه الذي بيَّنَّا حُكمه، وإبطال القرآن له في الحديث السابق، وهو أن يَنسب الإنسان ولدًا يعرف أنه ابن غيره إلى نفسه، وإنما كان التلقيح أفظَعَ جُرْمًا من التبنِّي؛ لأن الولد المُتبنَّى، المعروف أنه للغير، وليس ناشئًا عن ماء أجنبي عن عقد الزوجية، إنما هو ولد ناشئٌ عن ماء أبيه ألْحقه رجلٌ آخر بأُسرته وهو يعرف أنه ليس حلْقةً من سِلسلتها، غير أنه أخفَى ذلك عن الولد، ولم يشأ أن يُشعره بأنه أجنبيٌّ، فجعله في عداد أُسرته، وجعله أحد أبنائه زُورًا من القول. وأثبت له ما للأبناء من أحكام.

أما ولد التلْقيح فهو يجمع بين نتيجة التبنِّي المذكور ـ وهي إدخال عنصر غريب في النسب ـ وبين خِسَّةٍ أُخرى وهي التقاؤُه مع الزِّنَا في إطار واحد، تَنْبُو عنه الشرائع والقوانين، وينْبو عنه المستوى الإنساني الفاضل، ويَنزلق به إلى المستوى الحيواني الذي لا شُعور فيه للأفراد برِباطِ المُجتمعات الكريمة. وحسب مَن يدْعُونَ إلى هذا التلقيح ويُشيرون به على أرباب العُقم تلك النتيجة المُزدوجة، التي تجمع بين الخِسَّتَيْنِ: دخل في النسب، وعارٌ مستمر إلى الأبد. حفظ الله على المسلمين أنسابهم ومُستواهم الإنساني الفاضل.