التلفيق وتتبع الرخص في المذاهب من الموضوعات التي تثار أحيانا عندما يتبع الإنسان مذهبا معينا ، ثم يجد في مذهب آخر حكما يناسبه ، فيحاول اللجوء إليه ، أو الأخذ برأي أكثر من مذهب في مسألة معينة ، والسائد بين العلماء أن التلفيق يجوز بأن يؤخذ برأي في مذهب مجتهد وبآخر في مذهب مجتهد آخر متى لم يكن هذا التلفيق خارقا للإجماع .‏

أما العامي فمذهبه مذهب مفتيه لأنه لا يملك آلة النظر والاستدلال كالعالم ، هذا في حق الأفراد ، أما في حق الجماعات والأمم فإن الأخذ بالتلفيق فيه سعة للأمة ، وتيسير لها ، ورفع الحجر عنها .

ويوضح هذا الأمر فضيلة الدكتور الشيخ محمود عكاّم فيقول :

التلفيق هو في اللغة : ضم الأشياء والأمور والملاءمة بينهما لتكون شيئاً واحداً .
والتلفيق في التقليد هو : أخذ جميع الأحكام والوسائل والمقدمات المتعلقة بمسألة واحدة من مذاهب مختلفة ، مما يسمى تلفيقاً للحكم . فهل يجوز أم لا ؟ لأنه قد يوقع المقلِّد – في آن واحد – في أمر يعتبر باطلاً على المذهب الأول، وصحيحاً على المذهب الآخر . كمن مسح بعض شعيرات من رأسه في الوضوء ( وهذا مجزئ على المذهب الشافعي ، وغير مجزئ عند الحنفية والمالكية ) ، ثم لمس امرأة دون شهوة أخذاً بمذهب مالك والحنفي الذين يرون أن هذا لا ينقض الوضوء ، مع أنه طبقاً للمذهب الشافعي ينقض الوضوء . فإذا صلى مع هذا فإن صلاته تبطل ، لأن تقليد مذهب الغير يشترط فيه أن لا يكون موقعاً في أمر يجمع على إبطاله الإمام الذي كان على مذهبه والإمام الذي انتقل إليه .

جاء في حاشية العطار : ” التلفيق إن كان في جزئيات المسائل جائز ، وإن كان في أجزاء الحكم الواحد فهو المقصود بالمنع “.

ما يشترطه المانعون لتحقيق التلفيق الممنوع :
لا بد لتحقق التلفيق من أن يجتمع في النازلة الواحدة العمل بالقولين معاً حادثة واحدة ، كمن توضأ متبعاً في وضوئه ونواقضه آراء بعض الأئمة في بعضها وآراء الآخرين في بعضها الآخر ، ويصلي بذلك . أو أن يعمل في النازلة الواحد بأحد القولين ، مع بقاء أثر القول الثاني ، كما إذا باشرت البالغة العاقلة أمر زواجها بنفسها طبقاً للمذهب الحنفي ، ثم طلق الزوج هذه الزوجة بلفظ من الألفاظ التي تجعل الطلاق بائناً طبقاً للمذهب الحنفي ، لكنه قلد الشافعي في هذا ، واعتبر الطلاق بهذه الألفاظ من قبيل الطلاق الرجعي وراجعها .

موقف المذاهب من التلفيق :
أما الحنفية فقد نقل ابن عابدين في رسائله عن ابن نجيم المصري القول بالجواز ، بينما منعه الكثير من فقهاء الحنفية ، ومنهم ابن عابدين في رد المحتار ، بل إن منهم من ادعى الإجماع على ذلك ، وكذا المالكية والشافعية فتفيد كتبهم الاتجاه إلى المنع .
يقول الدسوقي في حاشيته : ” في التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين طريقتان : المنع وهو طريقة المصاورة ، والجواز وهو طريقة المغاربة، ورجحت ” .

ما نراه في التلفيق وتتبع الرخص :
الذي ننتهي إليه أن العامّي الذي لا يعرف قدراً من العلوم المؤدية للاجتهاد يلزمه في كل مسألة بما أفتاه مفتيه ، إذ التمذهب بمذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال ، وهذا لا إدراك له بتتبع الرخصة . لكن من عنده دراية بالفقه ، وله نوع نظر واستدلال وقدرة على الترجيح في مسائل الفقه ، فهو الذي يستطيع تتبع الرخص وتفهم أدلتها ، وهذا بالنسبة للأفراد قد يفتح أمامهم باب الاستهانة والتهرب من التكاليف ، ومع هذا فإنه كثيراً ما تشدَّد الناس على أنفسهم ، وخاصة في العبادات ، والوازع الديني غالباً ما يكون مانعاً من استعمال الرخص .

وأما بالنسبة للجماعة فإذا لوحظ عند سن القوانين المأخوذة من الفقه الإسلامي إباحة تتبع الرخص ليُيَسِّر ذلك للمقننين اختيار الحكم الملائم للعصر والبيئة من مجموع المذاهب الفقهية ، لكان هذا أفضل من أن نضيق عليهم ، وما أُمرنا أن نتعبد الله على مذهب واحد ، والرخص قال بها مجتهدون ، ولها أدلتها ، فلا خوف إذن من تتبعها ، بل هناك مصلحة وخير .