سبب إنشاء فكرة التجارة في العينات الدوائية المجانية :

لقد استحدثت شركات الأدوية فكرة العينات المجانية بقصد تسويق منتجاتها، إمعانا في تذكير الطبيب بالدواء وتكثيفا لحملتها الدعائية ، على حد قول القائل :” ليس راء كمن سمع” فقد يغيب اسم الدواء عن ذاكرة الطبيب فيأتي دور هذه العينات للتذكير المباشر والملح به.

وإذا كان للمرض الواحد عشرات الأدوية التي تعالج منه فإن دور العينات هنا أن تقفز إلى ذاكرة الطبيب لتمتزج بمداد قلمه أثناء كتابة الدواء، وإذا كان قلم الطبيب تتجاذبه هذه الأدوية العديدة فإن الشركة الناجحة في دنيا التجارة تلك الشركة التي تملك على الطبيب أقطار نفسه فتنجح في أن يكون دواؤها هو الدواء المسطور في روشتة الطبيب.

وشركات الدواء لا تترك الطبيب تتملكه الحيرة كلما هم بكتابة روشتة ما، بل تحاول كل شركة أن تكون منتجاتها أسبق إلى ذهن وقلم الطبيب من منتجات غيرها.

ذلك أن الذاكرة النشطة لكل طبيب تحتفظ بآحاد من هذه الأدوية لكل مرض، لا يكاد يخرج عنها قلمه، حاله في ذلك حال من يريد متابعة الأخبار يوميا فيجد أمامه عشرات الصحف، فإنه لا يقف كل يوم حائرا أي الصحف يشتري؟ بل إنه يقرر ابتداء عدة صحف يجعلها مرجعا له. وإذا كانت كل الصحف تتبارى في استقطاب القاريء فإن عددا محدودا منها هو الذي ينجح في هذه المباراة.

وإلى هنا لا يؤاخذ الطبيب على تكوين هذه المفضلة ( نعني بناء أولوية ذهنية للأدوية المتاحة، وطرح الباقي) إذا كان اختياره بناء على مصلحة المريض، فإذا تباينت الأدوية من ناحية الفاعلية اختار أشدها فاعلية، وإذا اتفقت في الفاعلية وتباينت من ناحية السعر اختار أرخصها، وإذا تكافأت في هذا وذاك فلا عليه في أن يختار هذا أو ذاك.

حكم تخصيص عينات دوائية مجانية من منتجات الشركة :

وإلى هنا لا تؤاخذ شركات الأدوية في تنشيط ذاكرة الطبيب بمنتجاتها من خلال العينات المجانية، ولكن الأمر لم يقف إلى هذا الحد.

فلم يعد الهدف من هذه العينات تنشيط ذاكرة الطبيب بها ولا التعريف بالدواء وإلا فلماذا تستمر الشركات العريقة في إنتاج هذه العينات لأدوية قديمة أصبحت معروفة ومجربة للمريض والطبيب على حد سواء… لو كان هذا صحيحا لاقتصرت العينات على الأدوية الحديثة والأدوية التي تكاد تنسى في زحمة المنافسات الشرسة.

ومن ثم فلم يعد اختيار الطبيب مرهونا بمصلحة المريض، ومتى حاول الطبيب أن يكون اختياره كذلك فإن شركات الأدوية لا تدعه، بل إنها تلح عليه في اختيار منتجاتها، وهذا الإلحاح لا يكون بقوة السيف والعصا، ولكنه يكون تحت ضغط الترغيب والإغراء، فإذا تلاقت الإرادتان ( إرادة الشركة في الترويج وإرادة الطبيب في التكسب) ظهرت العروض المكشوفة على حساب المريض المسكين!

فبعض الشركات تربط العينات المجانية بمقدار ما يصرفه من منتجاتها، فإذا صرف من منتجاتها مائة فله كذا ، وإذا صرف عشرة فله كذا.. وهكذا.

ويقارن الطبيب بين عروض الشركات فأيها كان أنفع له اعتمده في مفضلته وإلا فإلى سلة المهملات.

تقديم العينات المجانية الدوائية هدايا للأطباء :

وهنا يأتي السؤال : هل يجوز لشركات الأدوية أن يغرقوا الطبيب بهذه العينات المجانية؟

والجواب أنه إذا كان للطبيب بعض الحق في الحصول على العينة المجانية لاختبار الدواء والتعرف على خصائصه فليس له أي حق في التربح منه بالببع ونحوه وإلا تحول الأمر إلى رشوة على حساب المريض، وإنما قلنا- بعض حق- لأن مندوب الدعاية حينما يعرض على الطبيب منتجات شركته فإنه يكون معه ما يعرف بال( بورشور) وهو ثبت يحتوي على جميع منتجات الشركة يبين فيه خصائص كل دواء وآثاره إلا أن الطبيب عادة لا يأبه به، ولكنه يؤثر العينة المجانية!

الأصول الشرعية التي تمنع تربح الطبيب بالعينات الدوائية المجانية :

من الضروري أن نفرق بين حالتين:

الأولى : تربح الطبيب بالعينات مع خيانة المريض.

الثانية: تربح الطبيب بالعينات دون خيانة المريض.

هل يجوز تربح الطبيب بالعينات الدوائية المجانية وخيانة المريض :

ونعني بالحالة الأولى ( التربح مع الخيانة) أن يكون اختيار الدواء مرهونا بمصلحة الطبيب لا المريض بأن يختار الطبيب منتجات الشركة التي تزيد على غيرها في هداياها العينية أو النقدية.

إن المريض حينما يذهب إلى الطبيب فإنه يضع فيه ثقته الكاملة، ويقيم الطبيب مقام نفسه في اختيار ما هو أنفع له، ويوكله في ترشيح دواء مناسب له، ولا يدور بخلده أبدا أن هذا الطبيب يمكن أن يخونه وإلا لما ذهب إليه، وأسلم إليه نفسه ومكنه منها.

فأصبح الطبيب وكيلا عن المريض في مداواته، واختيار ما ينفعه، ويصلحه، فإذا اختار له شيئا وهو يعلم أن بالسوق ما هو أنفع للمريض منه فقد خان هذه الأمانة، وغش هذا المريض، وتربح من آثار هذه الخيانة رشوة إنما هي قطعة من جهنم.

وفي الحديث الذي رواه الحاكم وصححه السيوطي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من استعمل رجلا على عصابة، وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه؛ فقد خان الله ورسوله، وخان جماعة المسلمين).

كما أن الطبيب إذا فعل ذلك فإنما يكون قد فرط في فريضة إسلامية بايع النبي صلى الله عليه وسلم عليها أصحابه…. ألا وهي النصيحة، ففي صحيح البخاري أن المغيرة بن شعبة يوم مات قام فحمد الله وأثنى عليه، وقال كلاما ، ثم قال:
أما بعد فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أبايعك على الإسلام، فشرط علي: (والنصح لكل مسلم). فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد إني لناصح لكم. ثم استغفر ونزل).

حكم اختيار الطبيب ما هو أكفأ الأدوية وأرخصها منفعة له :

وعلى ذلك فمتى رغب الطبيب عن اختيار أكفأ الأدوية وأرخصها إلى ما هو أنفع له هو فإنه يكون آثما للأسباب التالية :-

1-لأنه لم يكن ناصحا للمريض.

2- لأنه يكون قد غش المريض وخانه وخذله في الوقت الذي تصور المريض فيه أنه ناصر ومعين له.

3- لأنه يكون قد فرط في عقد الوكالة، وأهدر أهم قيمها وهي الأمانة.

4- أننا لو فتحنا باب  التربح من هذه الهدايا لتنافست الشركات في اجتذاب الأطباء من هذا الباب بدلا من تحسين أدويتهم، فيقع المريض صريعا بين شركة كل همها التسويق، وبين طبيب كل همه الحصول على الهدية.

حكم شراء الصيادلة العينات الدوائية المجانية من المندوب :

وإذا كان هذا حال التربح من العينات المجانية فإن الحرمة تزداد وتعظم في حال الرشوة الصريحة التي يشترط فيها الطبيب من مندوب الدعاية أن يعطيه نقدا مقابل تصريفه منتجات شركته، وهنا لا يجوز للمندوب أن يطاوع الطبيب على هذه الرشوة، ولا أن يعرضها عليه، وإذا ذهب المندوب لبيع العينات للصيادلة حتى يعطي ثمنها رشوة للطبيب فيحرم على الصيادلة شراؤها من المندوب، وعلى هذا فلا يجوز للصيادلة أصلا شراء العينات المجانية من المناديب؛ لأن المناديب لا يلجأون إلى بيعها إلا لتحقيق مآرب شخصية لهم على حساب شركتهم أو على حساب المريض كما بينا.

هل يجوز تربح الطبيب بالعينات المجانية دون خيانة المريض :

وهذا يتصور فيما إذا كان اختيار الطبيب مرهونا بمصلحة المريض، واتفق للطبيب أن يحصل على هدية مع عدم إخلاله باختيار الأفضل والأرخص فهل يجوز له ذلك؟

وهنا سيجد الطبيب نفسه بين شقي رحى، بين الإمعان في البحث عن أفضل الأدوية وأرخصها وبين البحث عن الأدوية التي يجني من ورائها أكبر الهدايا فيقع في حيرة واضطراب، حاله في ذلك حال السمسار الذي يأخذ عمولة من البائع وعمولة من المشتري، فهو في وكالته عن البائع مطالب أن يبحث له عن أعلى الأسعار وفي وكالته عن المشتري مطالب أن يبحث له عن أرخصها، فكيف يمكن أن يصل إلى هذا وذاك في وقت واحد، ولذلك كان الرأي الراجح في نظرنا- وهو اختيار الدكتور رفيق يونس المصري- أنه لا يجوز للسمسار أن يحصل على عمولة من الطرفين.

ومما يؤكد ذلك جملة أصول شرعية:

1- منع الفقهاء الوكيل من الشراء من نفسه لموكله وكذلك ممن تلحقه بالشراء منهم تهمة( كولده وأبيه وجده وزوجته) وهذا الحكم متفق عليه بين الفقهاء الأربعة في الجملة، واستثنى بعض الفقهاء حالات من المنع، وضابط الاستثناء هو انعدام التهمة، وكان الشراء بثمن المثل أو أقل.

والعلة في المنع من ذلك التهمة والتضاد، أي أن الوكيل من شأنه أن يتهم بمحاباة نفسه أو قريبه إذا اشترى منهما للموكل، وكذلك لتعارض المصالح( مصلحة الموكل ومصلحة صاحب السلعة، يقول ابن الهمام الحنفي في فتح القدير : “لأن الواحد إذا تولى طرفي البيع كان مستزيدا مستنقصا[1]قابضا مسلما مخاصما مخاصما في العيب , وفيه من التضاد ما لا يخفى”.

2- ومما يؤكد ذلك ما قرره جماهير الفقهاء من رد الشهادة بتهمة الإيثار والمحبة ، فقد ذهب جماهير الفقهاء- ومنهم المذاهب الأربعة-على رد شهادة الأصل لفرعه وإن سفل ( مثل شهادة الأب لولد  أو ولد ولده)  كما ذهب جمهور العلماء إلى رد وشهادة الفرع للأصل( مثل شهادة الولد لأبيه وجده وأمه) لتهمة إيثار المشهود له على المشهود عليه ; لأن المنافع بين الولد والوالد متصلة .

3-  ومما يؤكد ذلك نهي الله تعالى  ولي اليتيمة عن الزواج بها إذا خاف  أن يظلمها، وذلك قوله تعالى : ” وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ) (النساء : 3) فقد روى البخاري وغيره أنّ عروة بن الزبير سأل عائشة عن هذه الآية فقالت : “يابنَ أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها تشرَكه في ماله ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليّها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صداقها فلا يعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنُهوا أن ينكحوهنّ إلاّ أن يقسطوا لهنّ ويبلغوا بهنّ أعلى سنتهنّ في الصداق فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء غيرهنّ .”

فنهي الولي عن نكاح موليته اليتيمة إلا إذا أمهرها أعلى ما تستحقه مثلها خوفا من التهمة في محاباة نفسه.

وعلى ذلك فلا يجوز للصيادلة أن يشتروا العينات المجانية من الأطباء طالما أننا قد وصلنا إلى أن بيعهم لها في الحالتين لا يجوز لأنهم بذلك يتعاونون معهم على الإثم والفساد والتربح على حساب المريض المسكين.

حكم بيع مناديب الشركات العينات المجانية وإهداء ثمنها للمشترين :

حينما يبيع مناديب شركات الأدوية كميات كبيرة دفعة واحدة لمخازن الأدوية أو للصيدليات فإنهم يجدون أن مجموعة كبيرة من العينات فائضة عندهم كانت مرصودة لتسويق هذه الكميات التي تم بيعها، فيعمد المناديب إلى بيع هذه العينات إلى ليقدموا ثمنها جائزة تشجيعية لمن اشتروا منهم هذه الكميات الكبيرة، والأفضل في هذه الحالة أن تمنح العينات للمشترين( صيادلة أو أصحاب مخازن) على أنها جوائز تسويقية ، وهذا أفضل لأسباب:-

1- أننا بذلك نخرج من خلاف الفقهاء في تحريم  درهم ومد عجوة ؛ وذلك أن إعطاء البائع هدية نقدية للمشتري داخل فيما يعرف عند الفقهاء بمد عجوة، والأصل في هذه المسألة حديث فضالة بن عبيد – رضي الله عنه- قال : ” اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز، ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ” لا تباع حتى تفصل”.

وهذا النوع من البيع مختلف فيه بين العلماء على أقوال ثلاثة :-

الأول : عدم جوازه مطلقا، وهو مذهب الشافعية والحنابلة وابن حزم,

الثاني : يجوز مطلقا، وهو مذهب الحنفية.

الثالث: يجوز إذا كان ما مع الربويين تابعا، والمفرد أكثر من الذي معه غيره [2]،وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.

2- لأننا اخترنا عدم جواز شراء الصيدلي هذه العينات؛ لأن المندوب الذي يبيعها – كما بينا سابقا- إنما يبيعها متربحا منها على حساب شركته أو على حساب المريض، ولكن الصيدلية أو المخزن في هذه الحالة يعرفان السبب الذي حمل المندوب على إعطائهما هذه العينات، وهو سبب لا يبدو في نظرنا ممنوعا ولا مضرا بأحد.

حكم تهريب مناديب الشركات العينات المجانية وبيعها للصيدليات :

مندوب الدعاية، أو مسئول المكتب العلمي حينما يقوم بتهريب العينات وبيعها لا يخلو ذلك من صورتين:-

الأولى : أن يقوم باختلاسها، وهذه سرقة واضحة- وإن كان لا يجب فيها قطع اليد لأنها تصنف في الفقه على أنها اختلاس لا سرقة- ويظل الإثم مطاردا  للمختلس حتى يتوب، ولا توبة له إلا بردها.

الثانية:  أن يقوم الموظف باختلاسها بطريقة فنية، وذلك يتصور إذا باع الموظف الكمية المربوطة بالهدية وأخفى عن المشتري أن له هذه العينات التسويقية نظير شرائه هذه الكمية، وينظم دفاتره على أن المشتري أخذها، وهذا الإجراء لا يجوز، ومثله ما إذا ربط بين مجموعة من الطلبيات الصغيرة ليجعلها تبدو في صورة صفقة واحدة حتى تحظى بالهدايا المربوطة بالطلبيات الكبيرة.

لأن الشركة حينما تسلم هذه الهدايا للموظف إنما تقصد توكيله عنها في توصيل هذه الهدايا للعملاء المشترين، وللشركة غرض تجاري من توزيع هذه الهدايا، فهي لا تهب عملاءها سدى، فإذا تصرف الموظف في هذه الهدايا تصرف الملاك فقد خان أمانة الوكالة ، والوكيل أمين، وتصرفاته مقيدة بحسب شروط موكله.

والشركة إنما تقصد تشجيع الصيادلة على الشراء بهذه الهدايا،ومعروف أن الذي يدفع الشركات أو مكاتب توزيع  الأدوية إلى ذلك إنما هو التنافس فيما بينها، فإذا حجب الموظف هذه الهدايا عن العملاء فإنه بذلك يضر بالشركة إضرارا بالغا ،حيث يحرم هذه الشركة من منافسة بقية الشركات في جذب الزبائن.

[1] – أي  سيستزيد في الثمن لمصلحة نفسه فهو صاحب السلعة، وعليه بمقتضى الوكالة أن يستنقص من الثمن لمصلحة موكله، فكيف يجمع بينهما!!

[2]  – الربويان هنا هما النقدان: النقد الذي يدفعه المشتري، والنقد الذي يقبضه على أنه حافز، والذي معهما هو الدواء.