روى البخاري وغيره عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “لا تَسُبُّوا الأموات فإنهم قد أفضَوا إلى ما قدموا

وروى أحمد والنسائي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا” وروى البخاري ومسلم أن جنازة مرت على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه فأثنَوا عليها خير”ا فقال ” وَجَبَت” ثم مرت جنازة أخرى فقالوا عنها شرًّا فقال:” وَجَبَتْ” ولما سألوه عن معنى ما قال،قال: “ما أثنيتم عليه خيرًا وجبت له الجنة، ومن قلتم عنه شرًّا وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض”.

ومن المشاهد أنه عندما يموت إنسان له شأن في الدنيا يتحدث الناس عنه إما بالخير وإما بالشر، والحديث بالخير إشادة بذكره وتكريم له، وتعزية لأهله أن الناس راضون عنه، والحديث بالشر تشويه لسمعته وإهانة له، وزيادة ألم على أهله، وقد يُقصد به التشفي الذي يُورِث الأحقاد التي ربما تؤدي إلى نزاع يَحتدِم وَيشتد وتكون له آثاره السيئة.

والحديث عن الميت لا أثر له عند الله سبحانه فهو العليم بما يستحقه من تكريم أو إهانة، وقد يكون حديث الناس عنه دليلاً ولو ظنيًّا على منزلته عند ربه، لكن ذلك لا يكون إلا من أناس على طراز معين من الصلاح والإنصاف والتقوى وقول الحق لوجه الحق، كالصحابة الذين قال النبي فيهم:” أنتم شهداء الله في الأرض”.

ومع ذلك نَهَى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يذكر الأموات بالسوء إذا كان ذلك للتشفِّي من أهله، فذلك يُغيظُهم ويُؤذِيهم، والإسلام يَنهَى عن الإيذاء لغير ذنْب جَنَاهُ الإنسان، ولا يؤثِّر على منزلته عند الله الذي يُحاسبه على عمله. وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قتلى بدر من المشركين:”لا تَسُبُّوا هؤلاء فإنه لا يَخلُص إليهم شيء مما تقولون، وتُؤذون الأحياء” وعندما سب رجل أباً للعباس كان في الجاهلية كادت تَقوم فتنة، فنُهِيَ عن ذلك.

ودراسة التاريخ إن كان لغرض الاعتبار والاقتداء بالصالحين وللتحذير من تقليد غير الصالحين، دون قصد للتشهير والتعيير الذي يظهر أثره على ذويهم من الأحياء فلا مانع منها أبدًا، بدليل أن الله ـ سبحانه ـ قصَّ علينا في القرآن الكريم أخبار المكذِّبين كما قصَّ أخبار الرسل والصالحين. وقال في حكمة ذلك (وكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنَ أنْبَاءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وجاءكَ فِي هذهِ الحَقُّ ومَوْعِظَةٌ وذِكْرَى للْمؤمِنِينَ ‎) (سورة هود : 120) وقال تعالى: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الألْبَابِ ما كانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ولَكِنْ تَصْدِيقَ الذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وهُدًى ورَحْمَة لِقَوْمٍ يُؤمِنُونَ) (سورة يوسف : 111).

يقول بعض العلماء : إن سب الموتى يكون في حق الكافر وفي حق المسلم، أما في حق الكافر فيُمتَنع إذا تَأذَّى به الحي المسلم ـ أو تَرتَّب عليه ضرر ـ وأما المسلم فحيث تدعو الضرورة إلى ذلك، كأن يَصِير من قَبِيل الشهادة عليه، وقد يَجِبُ في بعض المواضع. وقد تكون مصلحة للميت كمن علم أنه أخذ مالاً بشهادة زُور ومات الشاهد، فإن ذكر ذلك يَنفَع الميت إن علم أن من بيده المال يرده إلى صاحبه، والثناء على الميت بالخير والشر من باب الشهادة لا من باب السبِّ.

ومن الجائز تجريح الرواة للحديث أحياء وأمواتًا وذلك لإجماع العلماء على جوازه، وذكْر مساوئ الكفار والفسّاق للتحذير منهم والتنفير عنهم. قال ابن بطال: سبُّ الأموات يَجرِي مَجرَى الغِيبة، فإن كان أغلب أحوال المرء الخير، وقد تكون منه الفلْتة فالاغتياب له ممنوع، وإن كان فاسقًا معلِنًا فلا غِيبة له، وكذلك الميت، ومع ذلك فمن حُسْن إسلام المرء ترْكه ما لا يَعْنِيه.

والأولى أن يَنشغِل المرء بعيوب نفسه، ولا يَتورَّط في سب إنسان قد يكون بريئًا عند الله، إلا إذا دعت إلى ذلك الحاجة أو ضرورة وهي تُقدَّر بقدرها، والأعمال بالنيات، ولْنُقبِل على عمل الخير حتى يكون لنا ذِكْر حسن على ألسن الناس بعد أن نُفارقَهم فيدعوا لنا بخير.