الابتهال الديني تضرع إلى الله سبحانه، ودعاء مشفوع بشدة الرغبة في قبوله والرهبة من عدم قبوله، وحتى يكون مرجو القبول ينبغي أن تُلتزم فيه آداب الدعاء، التي جاء بعضها في قوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف : 55) والمراد بالخفية الإسرار به؛ ليكون أقرب إلى الإخلاص وعدم الرياء وفي قوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ) (الأعراف : 205) والمراد بالخيفة الخوف من الله أن يرد الدعاء .

وفي قوله تعالى: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء : 90) والخشوع هنا عدم انشغال الفِكْر بغير الله حين الدعاء، والتزام الأدب والسكون عند مُناجاته. والابتهال بما فيه من تضرع ورغبة ورهبة وخشوع، يغلب أن يكون بصوت فيه تحزن قد يُسلم إلى البكاء، على نحو ما يكون في قراءة القرآن الكريم من التحبير والتجويد والتحزن الذي يؤثر في القلوب. وقد صح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقف يستمع إلى قراءة أبي موسى الأشعري دون أن يحس به، ولما أخبره قال: لو علمت أنك تسمعني لحبرته لك تحبيرًا. وهو ـ يتأثر لسماع القرآن ويبكي أحيانًا، كما حدث عند سماعه لقراءة عبد الله بن مسعود لقوله تعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) (النساء : 41).
وإذا كان من آداب الدعاء والابتهال الإسرار به فقد يكون الجهر به مناسبًا لظروف معينة، كما إذا كان جماعيًّا يشترك فيه غير المبتهل بالتأمين على الدعاء، كما في صلاة الاستسقاء، حيث تكون الخُطبة مشتملة على استغاثة وتضرع أن ينزل الله عليهم المطر، كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
ولاشك أن الصوت الحسن الخاشع لله يؤثر أكثر مما يؤثر الصوت العادي في مثل هذه المواقف. وذلك مع التزام القراءة الصحيحة فيما يتخلل الابتهالات من قرآن، بعيدًا عن الألحان التي تؤدى بها الأغاني والأناشيد الأخرى.

هل يمكن الحُكم على الابتهالات الدينية بأنها دعاء مجود بصوت حسن؟
نعم، يُمكن الحُكم عليها بذلك في عُرف الناس، وإن كانت تُؤدى شرعًا بدون ذلك فهي دعاء لله سبحانه، قد يؤدى سرًّا دون حاجة إلى صوت حسن يؤثر في السامعين.

هل يُعتبر الابتهال الديني عبادة، وهل هناك آثار أو نصوص شرعية خاصة به؟
الابتهال الديني دعاء، والدعاء عبادة أمر الله بها في مثل قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر : 60) إلى جانب الآيات السابقة في البند رقم 2 وفي الحديث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “الدعاء هو العبادة” رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.
وهناك نصوصًا شرعية مأثورة في ابتهالات وأدعية خاصة فإن الوارد من ذلك كثير، وهو مذكور في القرآن والسنة، اقرأ من سورة البقرة الآيات: (201، 268) ومن سورة آل عمران الآيات: (8، 53، 147، 191، 194) ومن سورة إبراهيم الآيتين: (40،41) ومن سورة الفرقان الآيتين: (65، 74) . وكتب الأحاديث النبوية فيها كثير من الأدعية، ومن أجمعها كتاب “الأذكار المُنتخبة من كلام سيد الأبرار” للإمام النووي. والدعاء بالمأثور أفضل من الدعاء المصنوع إن كان يغني عنه.

إذا كان الشرع الإسلامي يبيح الابتهال فما الصورة التي يجب أن يكون عليها، وهل هناك شروط لصحته أو قبوله؟
البعد عن تناول المحرمات، فإن تناول المحرمات يمنع قبول الدعاء، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر الرجل أشعث أغبر يمد يده إلى السماء ويقول: يارب يارب، ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنَّى يُستجاب له؟ فمن أراد أن يكون مستجاب الدعوة فليكن مطعمه من الطيبات مما أحل الله، إلى جانب البعد عن المحرمات الأخرى.

تُذاع بعد قراءة القرآن وقبل أذان الفجر بعض الابتهالات الدينية، وخاصة في شهر رمضان. فهل هذا تقليد ؟ أو له أصل شرعي؟
لم تكن هذه الابتهالات موجودة في أيام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا في عهد السلف الصالح، بل هي أمر مستحدث، والعلماء فيه فريقان، بعضهم قال بمنعها؛ لأنها بدعة في الدين والحديث يقول: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ” رواه البخاري ومسلم، وبعضهم قال بعدم منعها؛ لأن كل أمر مُستحدث لا يحكم عليه بالرد. فمن المستحدثات المفيدة غير الضارة ما قبله الصحابة، كاجتماع المسلمين على إمام واحد في صلاة التراويح في المسجد وقال عمر: نعمت البدعة هذه.
وجاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة الذي نشرته الأوقاف المصرية (ص 238) أن التسابيح والاستغاثات قبل الأذان بالليل ونحو ذلك بدع مُستحسنة؛ لأنه لم يرد في السنة ما يمنعها، وعموم النص يقتضيها: انتهى.
وهي على كل حال دعاء في وقت السحر، والله يقول عن المتقين (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذاريات : 18) وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم “ينزل الله تعالى كُل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول عز وجل: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟”.
هذا هو رأي الجمهور، وعند الحنابلة هي بدعة سيئة، قال في “الإقناع” وشرحه من كتب الحنابلة: وما سوى التأذين قبل الفجر من التسبيح والنشيد ورفع الصوت بالدعاء ونحو ذلك في المآذن فليس بمسنون. وما من أحد من العلماء قال: إنه مُستحب ـ لعله يقصد علماء الحنابلة ـ بل هو من جملة البدع المكروهة؛ لأنه لم يكن في عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا في عهد أصحابه، وليس له أصل فيما كان على عهده يرد إليه، فليس لأحد أن يأمر به ولا ينكر على من تركه.
وجاء في كتاب “تلبيس إبليس“، لابن الجوزي قوله: ولقد رأيت من يقوم بليل كثير ـ أي جزء كبير من الليل ـ على المنارة فيعظ ويذكر ويقرأ سورة من القرآن بصوت مرتفع فيمنع الناس من نومهم، ويخلط على المتهجدين قراءتهم وكل ذلك من المنكرات.
وقد ذكر المقريزي في خططه “ج 4 ص 43” وما بعدها أن التسبيح ليلاً على المآذن لم يكن من فعل السلف، وأول ما عرف ذلك كان في أيام موسى ـ عليه السلام ـ، وهم في التيه بعد غرق فرعون. ثم ذكر تطوره وما يصحبه من نشيد وآلات حتى نهاية عهد بني إسرائيل في القدس.
وذكر أن أصله في مصر بدأ من أول عهد الفتح الإسلامي في ولاية مسلمة بن مخلد، وإشارة شرحبيل بأن يبدأ الأذان من منتصف الليل إلى قُرب الفجر، حتى لا يضرب بالنواقيس في الكنائس في هذه الفترة، وذكر أن الطولونيين رتبوا المكبِّرين والمسبحين ليلاً. ومن ذلك اتخذ الناس عادة التسبيح على المآذن قبل الفجر.
فالخلاصة أن الابتهالات قبل الفجر لا يُوجد ما يمنعها شرعًا عند جمهور العلماء، فهي وإن كانت تقليدًا موروثًا لم يكن في عهد السلف الصالح ـ فهي من البدع المُستحسنة.
وإذا كان بعض الناس يُسيئون استعمال الابتهالات عن طريق إذاعتها بمكبرات الصوت التي تزعج بعض ذوى الأعذار فإن ذلك لا يمنع أصل إباحتها، وذلك بإنصات المستمعين إليها في المساجد بخشوع محافظة على حُرمة المسجد، ويمنع إيذاء ذوى الأعذار من جراء إذاعتها بمكبرات الصوت.