يتناول بحث الإشاعة والتشهير نقطتين :

أولاهما : موقف الدِّين من الإشاعة والتشهير.
وثانيتهما : ما يجب لمقاومة هذا الخطر.

أما الأولى : موقف الدين من الإشاعة والتشهير:

فإنَّ الإشاعة في اللغة هي الإظهار والنشر، وذلك يصْدُق بما هو صادق، وبما هو كاذب، ولكن العُرْف قصرها على الأخبار التي لم يثبت صِدْقها بعد، ويُقال لها: الأراجيف، واحدها إرجاف، وأصل الرَّجف الحركة والاضطراب، والإشاعة فيها هذا المعنى.

وأكثر ما يحمل على الإشاعة الكراهية لمن يُشاع عنه، أو حُب الظهور بالسبق إلى معرفة ما لا يعرفه غيره، أو التسلية أو التنفيس عن النفس فيما حُرِمَتْ منه، وتكثر أيام الأزمات الإجتماعية والاقتصادية وغيرها حيث يكون الجو ملائمًا لرواجها.

وللإشاعة آثارها الضارة، من بلبلة الأفكار وتضليل الرأي العام، والفتنة بين الناس، وتشويه سمعة البرآء، كما أشاع المشركون على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنه ساحرٌ كذابٌ، وأنه شاعر أو كاهن أو مجنون، وكما أشاعوا في غزوة أحد أنه قُتِلَ لتخذيل أصحابه.

والإسلام لا يرضى عن اختلاق الإشاعة الكاذبة؛ لأن فيها ضررًا، والإسلام لا ضرر فيه ولا ضرار، والكذب مذموم إلا في حالات مُعينة لجلب مصلحة أو دفع مضرة، ومنها ما سمح به الرسول لمعبد بن أبي معبد الخزاعي من تخذيل قريش بعد انصرافهم من غزوة أحد حتى لا يعادوا الكرة لقتال المسلمين، وما سمح به لنُعَيْم بن مسعود الأشجعي في غزوة الأحزاب لتخذيل العدو.

وتوضيح ذلك في كُتب السيرة من النصوص الدالة على حُرْمَة إشاعة الكذب والإضرار بالناس :
قوله تعالى : (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُم الْكَاذِبُونَ) [سورة النحل : 105]. وقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [سورة الأحزاب : 58]. وقوله عن المُرْجفين: (مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا) (سورة الأحزاب : 61).

وقوله -صلى الله عليه وسلم- : “إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وأموالكم عليكم حرام. (رواه البخاري ومسلم)
وقوله : (إنَّ أَرْبَى الرِّبا الاستطالة في عِرْضِ مُسْلِم بِغَيْر حَقٍّ”. (رواه أبو داود)

وقوله : (أَيُّمَا رَجُل أَشَاعَ على رَجل مسلم بكلمة هو منها بَرئ يُشينه بها في الدنيا، كان حقًّا على الله أن يُذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال. (رواه الطبراني بإسناد جيد)
وفي رواية أخرجها البغوي : “ومن قفا مُسلمًا بشيء يريد شَينه به حبسه الله على جِسر جهنم حتى يخرج مما قال”. وقوله : “لا يَحل لمسلم أن يروِّع مسلمًا”. (رواه مسلم)
وقوله : “من أخاف مؤمنا كان حقًّا على الله ألا يُؤَمِّنه من فزع يوم القيامة”. (رواه الطبراني)
ولا شك أن الإشاعة فيها ترويع للمسلم وتخويف له.

وهذا إلى جانب أن الله سبحانه سَمى صاحب الخبر الكاذب فاسقًا فقال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [سورة الحجرات: 6]

وسمَّاه شيطانًا فقال عن نُعيم بن مسعود الأشجعي قبل أن يُسْلِم وأراد أن يخذل جيش المسلمين في غزوة بدر الصغرى : (إِنَّمَا ذَلَكَ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلَياءَهُ فَلا تَخَافُوهُم) [سورة آل عمران : 175] كَمَا وصفه بأنه يحب الشر للناس كالمُرْجِفين الذين في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا، والَّذي يحب الشر للناس ليس مؤمنًا، كما نص الحديث : “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”. (رواه البخاري ومسلم).

وأما النقطة الثانية :وهي في مقاومة الإشاعة فتتمثل بعد التوعية بخطرها فيما يأتي :

1 ـ عدم سماع الكذب. فهو من صفات اليهود (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) (سورة المائدة : 51).

2 ـ عدم اتباع ما لا علم للإنسان به، قال تعالى : (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ إِنَّ السَّمَعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْه مَسْئولَا) [سورة الإسراء: 26].
3 ـ عدم اتِّباع الظن فهو من سمات الكافرين، وتصديق الإشاعة اتباع للظن، قال تعالى : (وَمَا لَهُمْ بِه مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) [سورة النجم : 28]
وفي تصديق الإشاعة ظن سيئ بمن ألصقت به وهو منهي عنه قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) [سورة الحجرات : 12] وقال في حادث الإفك الذي روجه زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه ضد أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها : (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوه ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذا إِفْكٌ مُبِينٌ) [سورة النور: 12].

4 ـ وجوب التثبت من الأخبار وعدم المبادرة بتصديقها دون روية وفكر وبحث، كما قال تعالى في حادث الإفك : (لَوْلَا جَاءوا عَلَيْه بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [سورة النور : 13].
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن اتَّهم زوجته بالزِّنا : “البينة أو حدٌّ في ظهرك”. (رواه البخاري ومسلم)

ولما جاء الوليد بن عُقبة بخبر كاذب عن بني المُصْطَلَق لم يقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- كلامه، بل أرسل خالد بن الوليد للتحري والتثبت ونزلت الآية (إِنْ جَاءَكُمْ فاسقٌ بِنَبأ فتبينوا) وفي غزوة بني المصطلق قال عبد الله بن أبي بن سلول -زعيم المنافقين- : (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلّ) [سورة المنافقون : 8].
يريد بالأعَزِّ نفسه وبالأذَلِّ رسول الله، فنقل زيدٌ بن أرْقم الأنصاري هذا الكلام إلى الرسول، فتغير وجهه وأراد أن يتثبت من صِحة النقل فقال : “يا غلام لعلَّك غضبت عليه فقلتَ ما قلتَ” فقال : والله يا رسول الله لقد سَمِعْتُه. فقال : “لعله أخطأ سمعُك”.

وفي رواية البخاري : فصدَّقهم وكذَّبني فأصابني هَمٌّ لم يصبني مثله، فجلست في بيتي فأنزل الله (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ…) فقال له النبي : “إنَّ الله قد صدقك يا زيد”.
وهذا الإجراء من النبي -صلى الله عليه وسلم- دليل على وجوب التَّحري والتثبُّت، حَتَّى لو نُقلت الإشاعة عن العدو.

ومن وسائل التثبُّت بالرجوع إلى جِهة الاختصاص لمعرفة الحق في الأخبار الشائعة، وعلى المختصين بيان ذلك، قال تعالى عن المنافقين الذين كانوا يتلقوْن أخبار السرايا ويشيعونها قبل أن يتحدث عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو جِهة الاختصاص : (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِه وَلَوْ رَدُّوه إِلَى الرَّسولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَه الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَه مِنْهُمْ) [سورة النساء : 83].

5 ـ عدم ترديد الإشاعة وحصرها في أضيق الحدود حتى لا يكثر من يساعدون على نشرها، ويساعد على ذلك: المُبادرة بحُسْن الظن، والتنزه عن نقل الباطل، قال تعالى في حادث الإفك (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوه قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنْا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيم) [سورة النور : 16] وفي الحديث : “كفى بالمَرء إثمًا أن يُحَدِّث بكل ما سَمِعَ”. (رواه مسلم)

والخوف من إشاعة الفاحشة (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ) (سورة النور : 19).

6 ـ المقاومة الفعلية للإشاعة بطريقة عملية إيجابية، تقوم بها الجهات المسئولة كالبلاغات والبيانات التي تفنِّدها، ومعاقبة المُروجين لها، كما قال تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَه الْمُنَافِقُونَ والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِينَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا . مَلْعُونِينَ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتُّلِوا تَقْتِيلاً) [سورة الأحزاب : 60-61]
وقد أخرجهم الرسول من المسجد وأبعدهم عن المدينة، ثم قاتلهم لاستمرارهم على إيذاء المسلمين بشتى الوسائل، وذلك في غزوة بني قَيْنُقَاع وبني النَّضِير، وبني قُرَيْظَة.
وقد وضع الإسلام عقوبة للإشاعة التي تتعلق بالأعراض، وهي حد القَذْف الذي يتهم فيه البُرآء بالفاحشة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هَمُ الْفَاسِقُونَ) [سورة النور: 4].

وقد حدَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- من أشاعوا الإفك على السيدة عائشة، وحدَّ عمر -رضي الله عنه- ثلاثة أشاعوا الزنا على المُغيرة بن شُعْبة.

– هل له أن يفضح الشخص من فضحه بالتشنيع عليه؟

هناك آياتٌ في هذا المقام تحتاج إلى توضيح هي قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدوا عَلَيْه بِمِثْل مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [سورة البقرة : 194]
وقوله: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِه وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) [سورة النحل: 126]
وقوله : (وَلَا تَسْتَوي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَه عَدَاوَةٌ كَأَنَّه وَليٌّ حَمِيمٌ) [سورة فصلت : 34]
وقوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُه عَلَى اللهِ إِنَّه لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِه فَأُولَئِكَ مَا عَلَيهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (سورة الشورى: 40،41).
وهناك أمثالها تدعو إلى كَظْم الغيظ والعفو عن المسيء والإحسان إليه.
وقد شرحها المفسرون مُنبهين إلى أمور : أن الذي يتولى القصاص في الاعتداء هو المسئول، ولا يجوز أن ينفرد به المُعتدى عليه أو وَلِيُّه، وأن القصاص يُلتزم فيه الاقتصار على الحد الأدنى الذي لا تجاوزه فيه، وأن الخطأ لا يداوى بالخطأ، وأن العفو عن المسيء مندوب إليه إذا كان فيه إصلاح له لا إغراء على العدوان.

يقول القرطبي في تفسير (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) : “من ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، ومن شتمك فرُد عليه مثل قوله : ومن أخذ عِرضك -أي اتهمك بالزنا- فخذ عِرضه، لا تتعدى إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه، وليس لك أن تكْذب عليه وإن كَذَبَ عليك، فإن المعصية لا تقابل بالمعصية، فلو قال لك مثلاً: يا كافر! جاز لك أن تقول له : أنت الكافر، وإن قال لك : يا زان، فقصاصك أن تقول له : يا كذاب يا شاهد زور، ولو قلت له : يا زان، كنت كاذبًا وأثمت في الكذب. وإن مَطَلك وهو غني دون عُذر فقل: يا ظالم، يا آكِل أموال الناس، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : “ليُّ الواجد يحل عِرضه وعقوبته” أما عِرضه فبما فسرناه، وأما عقوبته فالسجن يُحبس فيه.

وقال في انتصار من أصابهم البغي ومقابلة السيئة بالسيئة والترغيب في العفو جـ 16 صـ 39.

قال ابن العربي : ذَكَرَ الله الانتصار في البغي في معرض المدح، وذكر العفو عن الجُرم في موضع آخر في معرض المدح، فاحتمل أن يكون أحدهما رافعًا -ناسخًا – للآخر، واحتمل أن يكون ذلك راجعًا إلى حالتين، إحداهما أن يكون الباغي معلنًا بالفجور، وقحًا في الجمهور، مؤذيًا للصغير والكبير، فيكون الانتقام منه أفضل.
وفي مثله قال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فتجْتَرِئ عليهم الفُسَّاق ـ الثانية أن تكون الفلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة ويسأل المغفرة، فالعفو ها هنا أفضل.
وفي مثله نزلت : (وَأَنْ تَعْفُو أَقْرَبُ لِلتَّقَوى) [سورة البقرة: 237] ثم ذكر في (صفحة 44) أن العفو مندوب إليه، وقد ينعكس الأمر فيكون تَرْك العفو مندوبًا إليه، وذلك إذا احتيج إلى كفِّ زيادة البغي وقطع مادة الأذى، وعن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يدُل عليه، وهو أن زينب أسمعت عائشة -رضي الله عنهما- بحضرته، فكان ينهاها فلا تنتهي، فقال لعائشة “دونك فانتصري”. (خرَّجه مسلم في صحيحه بمعناه).

وجاء في هذا الحديث أن أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسلن إليه فاطمة بنته يسألنه العدل في حب عائشة، فلم تستطع فأرسلن زينب بنت جحش -وكانت تسامى عائشة في الحب- فأخذت تسبها وعائشة ساكتة تنتظر أن يأذن لها الرسول في الجواب فأذن لها فسبتها حتى جف لسانها فقال -صلى الله عليه وسلم- “كلا إنها ابنة أبي بكر” يعني لا تستطيع مقاومتها في الكلام.
ويعلق الغزالي “الإحياء جـ 3 صـ 156” على ذلك بقوله : وقولها “سببتها” ليس المراد به الفحش، بل هو الجواب عن كلامها بالحق ومقابلتها بالصدق… ثم قال الغزالي: هناك رخصة في مقابلة الإيذاء بمثل الإيذاء ولكن الأفضل عدمها، لأنها تجر إلى ما رواءها ولا يمكنه الاقتصار على قدر الحق فيه، فالسكوت عن أصل الجواب لعله أيسر من الشروع فيه والوقوف عند حد الشرع فيه.

يؤخذ من هذا أن من شنع على إنسان بما ليس فيه يجوز له أن يشنع عليه، ولكن بما فيه دون اختلاق شيء ليس فيه كما يؤخذ منه أن يكون الانتصاف بالمثل دون تجاوز، حتى لا يجر الخصم إلى التجاوز أيضا فتتسع الهوة ويصعب التصالح، روى البخاري ومسلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : “إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه” قيل : يا رسول الله! يلعن الرجل والديه؟ قال “يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه”.

كما يؤخذ منه أن العفو أفضل، ومحله كما قال المحققون إذا لم يكن العفو مغريًا وإلا كان الانتصاف منه أفضل. روى البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أسر أبا عزة الجُمَحي يوم بدر، فمنَّ عليه وعاهده ألا يحرض عليه ولا يهجوه، فأطلقه ولحق بقومه، ثم عاد إلى التحريض والهجاء، ثم أسر يوم أحد، فسأله أن يمن عليه فقال -صلى الله عليه وسلم- : “لا يُلْدَغ المؤمن من جُحْرٍ مرتين”.

ومن الناس من يؤثر عدم الانتصاف من المعتدي رجاء فضل الله وأجره، أو احتقارًا له كما يقول الشاعر :

سكت عن السَّفيه فظن أني      عييتُ عن الجواب وما عييتُ

إذا نطق السَّفيه فلا تجبه       فخيرٌ من إجابته السكوتُ

لكن الأحوال تختلف، ومن الحِكْمة وضع كل شيء في موضعه كما يقول الحكيم :
ووضع النَّدى في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السَّيْف في موضع النَّدى

الندى في الشطر الأول هو الخير والعفو، وفي الشطر الثاني القطر النازل من السماء والضباب وهو يضر السيف بالصدأ.

وبعد، فلعل في هذا الهدي الديني ما يبصر أرباب الألسنة والأقلام الذين يُمكن لهم في القول والكتابة -مُستغلين مبدأ الحرية استغلالاً سيئًا- بمراعاة الأدب في النَّقْد والتوجيه، وبخاصة في حق الشخصيات التي يجب أن يُوفَّر لَهَا الاحترام، فلا يختلق عليهم ما يمسُّ كرامتهم، ولا تجسم الصغائر والهفوات التي لا يسلم منها أحد، ففي الحديث الذي رواه أبو داود : “أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم إلا في الحدود”.

وليعلم كلُّ من له لسان أو قلم أن في القوم من لهم أقوى من ألسنتهم وأقلامهم، وأن أي إنسان لا يخلو من سلبيات إن تجاهلها فالناس لا يجهلونها، ويرحم الله الإمام الشافعي إذ يقول :

إذا رُمت أن تحيا سليمًا من الأذى     ودينك موفور وعرضك صَيِّن
لسانك لا تذكر به عورة امرئ            فكلك عورات وللناس ألْسُن
وعيناك إن أبدت إليك مساوئًا        فدَعْها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعورف وسامح من اعتدى   ودافع ولكن بالتي هي أحسن