هذا الموضوع يعرف بتاريخ التشريع الإسلامي , وقد أفردت فيه المؤلفات ، ولكن هذه نبذة مختصرة نلقي الضوء فيها على هذا التاريخ المشرق لأمتنا.
بداية قد مرت بالفقه الإسلامي أطوار متعددة يتداخل بعضها في بعض , ويؤثر المتقدم فيها بالمتأخر , ولا نستطيع أن نقول : إن هذه الأطوار متميزة من حيث الزمن تمييزا دقيقا , اللهم إلا الطور الأول وهو عصر النبوة , فإنه متميز عما بعده بكل دقة , بانتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى .

الطور الأول : ( عصر النبوة ) :
وهو في عهديه المكي والمدني يعتمد كل الاعتماد على الوحي , حتى إن المسائل التي اجتهد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اجتهد فيها أصحابه في حضرته أو غيبته ثم علمها فأقرها أو أنكرها تعتمد – كذلك – على الوحي , لأن الله سبحانه وتعالى إن أقر هذا الاجتهاد فهو تشريع بطريق الوحي , وإن رده فالمعتمد على ما أقره الوحي من تشريع .

ولم يدون في هذا العهد إلا القرآن الكريم . وقد نهي عن تدوين غيره خشية أن يختلط على الناس كلام الله بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم كما وقع للأمم السابقة , حيث خلطوا بين كلام الله ورسلهم وأحبارهم ورهبانهم واعتبروها كلها كتبا مقدسة من عند الله , ولكن أذن لبعض الصحابة أن يدونوا أحاديثه الشريفة , كعبد الله بن عمرو بن العاص , فقد كتب ما سمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمى صحيفته هذه ب ” الصادقة ” , وأذن لعلي كرم الله وجهه أن يكتب بعض المسائل التي تتصل بالدماء والديات .

وقد انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بعد أن مكث يبلغ رسالة ربه ثلاثا وعشرين سنة , منها ثلاث عشرة سنة بمكة , كانت مهمته الأولى تثبيت العقيدة , كما عني في هذا العهد بالدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن أمهات الرذائل , وإذا كان في العهد المكي بعض الأحكام الفرعية كأحكام الذبائح فإن هذه الأحكام لها صلة بالتوحيد . والعهد المدني هو ذلكم العهد الذي توالت فيه التشريعات العملية بكل ما تحمله هذه الكلمة .

الطور الثاني : ( عهد الصحابة ) :
وهذا العهد يتميز بكثرة الأحداث التي جدت بعد عهد النبوة , لكثرة الفتوحات واختلاط المسلمين بغيرهم من الأمم التي لها أعراف لم تكن معروفة عند العرب . ولا بد من معرفة حكم الله في هذه الحوادث الجديدة , وكان هذا العهد يتميز بوجود صحابة عرفوا بالفقه , فكان يرجع إليهم إذا نزلت الحوادث . وكان منهم المكثرون للفتيا وهم لا يتجاوزون ثلاثة عشر شخصا . نذكر منهم : عمر وعليا وزيد بن ثابت وعائشة وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود إلخ . رضي الله عنهم جميعا . ولو جمعت فتاوى كل واحد منهم لكانت سفرا عظيما . ومنهم المتوسطون كأبي بكر رضي الله عنه . وإنما قل ما نقل عنه عمن جاء بعده لأنه لم تطل حياته بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مات في السنة الثالثة عشرة للهجرة , وكان همه إطفاء فتنة المرتدين ومانعي الزكاة ثم توجيه الجيوش الإسلامية إلى الروم والفرس , ومنهم عثمان رضي الله عنه وأبو موسى الأشعري وغيرهم , بحيث لو جمعت فتاويهم لبلغت كراسة أو كراستين . وهناك من أثر عنه الفتوى في مسألة أو مسألتين أو ثلاث . ويعتبر إمام هذا المذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم تلميذه عبد الله بن مسعود .

وفي صدر هذا العهد , وبالتحديد في عهد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما جد مصدر ثالث سوى الكتاب والسنة كان مرجعا لمن جاء بعدهما , ألا وهو الإجماع , فقد كان إذا نزلت الحادثة يستدعي الخليفة من عرفوا بالتفقه في الدين , وكانوا معروفين مشهورين محصورين فيما بينهم , فيعرض عليهم الأمر , فإن اتفقوا على رأي كان ذلك إجماعا لا يسوغ لمن جاء بعدهم أن يخالفوه , كإجماعهم على توريث الجدة الصحيحة السدس إذا انفردت , وكإجماعهم على حرمة تزويج المسلمة للكتابي مع حل تزوج المسلم للكتابية . وكإجماعهم على جمع القرآن في المصاحف , إلى غير ذلك من المسائل المجمع عليها . وفي هذا العهد لم يدون إلا القرآن الكريم أيضا , وكانت السنة وفتاوى الصحابة في المسائل المستحدثة تنقل حفظا في الصدور , اللهم إلا أن البعض كان يدون بعض هذه الأمور لنفسه لتكون تذكرة له .

الطور الثالث : ( طور التابعين ) :
وهذا الطور امتداد لعهد صغار الصحابة , وقد اشترك أكثرهم في حروب الفتنة . ولكن هذا العهد تميز بوجود مدرستين :

إحداهما بالحجاز , والأخرى بالعراق .

فأما مدرسة الحجاز فكان اعتمادها في الاجتهاد على نصوص من كتاب وسنة , ولا تلجأ إلى الأخذ بالرأي إلا نادرا , وذلك لوفرة المحدثين هناك , إذ هو موطن الرسالة , وفيه نشأ المهاجرون والأنصار , وسلسلة الرواة عندهم قصيرة , إذ لا يتجاوز التابعي في تحديثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من راو واحد , وهو الصحابي غالبا . والصحابة رضي الله عنهم عدول ثقات . وكانت هذه المدرسة بالمدينة يتزعمها أولا : عبد الله بن عمر رضي الله عنهما , ومن بعده سعيد بن المسيب وغيره من التابعين , وأخرى بمكة , وكان يتزعمها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ترجمان القرآن . وحمل الأمانة بعده تلاميذه كعكرمة مولاه وابن جريج .

أما المدرسة الأخرى – وهي مدرسة العراق – فكانت تلجأ إلى الرأي كثيرا . والرأي عندهم يرجع إما إلى القياس الأصولي , وهو إلحاق مسألة لا نص فيها بمسألة فيها نص شرعي , لعلة جامعة بينهما , وإما رد المسائل المستحدثة إلى قواعد الشريعة العامة , لأن أساتذة هذه المدرسة شددوا في الرواية , نظرا لأن العراق كان يومئذ موطن الفتن , ففيه الشعوبيون الذين يكنون العداء للإسلام , ولكنهم يعبرون عن ذلك بكراهيتهم للعرب , ومنهم الملاحدة الذين لا يفتئون يثيرون الشبهات , ومنهم غلاة الرافضة الذين بالغوا في حب علي حتى جعلوه إلها أو شبه إله , ومنهم الخوارج الذين يكرهون عليا وشيعته , بل ويستبيحون دماء المسلمين الذين على غير نحلتهم , ومنهم ومنهم . . . فكان الفقهاء الذين يعتد بهم يتحرون في الرواية , ويدققون فيها , ويضعون شروطا لم يلتزمها أهل الحجاز . وذلك أنهم اعتبروا عمل الصحابي أو التابعي بغير ما روى قدحا في روايته . فيحملون هذه الرواية على أنها منسوخة أو مؤولة . وكذلك يعتبرون أن انفراد الثقة برواية في مسألة تعم بها البلوى قدح في روايته , ويحملون هذه الرواية على أنها إما منسوخة أو خطأ من الراوي عن غير قصد , لأنهم كانوا يتحاشون وصف الثقات بتعمد الكذب , فالعدل قد ينسى أو يخطئ .

ومن هنا كثر اعتماد فقهاء هذه المدرسة على الأخذ بالرأي فيما يجد لهم من أحداث , اللهم إلا إذا ثبتت عندهم سنة لا شك فيها , أو كان احتمال الخطأ فيها احتمالا ضعيفا . وكان زعيم هذه المدرسة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . ثم جاء من بعده تلاميذه , وأشهرهم علقمة النخعي , ثم من بعده إبراهيم النخعي , وعليه تخرج أئمة هذا المذهب .

1- ليس معنى أن مدرسة الحجاز كانت مدرسة الحديث والأثر أنه لم يكن من بين فقهائها من يعتمد على الرأي في كثير من استنباطاته , فقد عرف في هذا العهد من الحجازيين ربيعة بن عبد الرحمن المشهور بربيعة الرأي , وهو شيخ الإمام مالك . كما كان في العراق من يكره الأخذ بالرأي كعامر بن شراحيل المشهور بالشعبي .
2- ومما ينبغي أن يعلم أن أكثر حملة العلم في هذا العهد كانوا من الموالي , ففي المدينة كان نافع مولى عبد الله بن عمر , وفي مكة كان عكرمة مولى عبد الله بن عباس , وفي الكوفة سعيد بن جبير مولى بني والبة , وفي البصرة الحسن البصري وابن سيرين , وفي الشام مكحول بن عبد الله وهو أستاذ الأوزاعي , وفي مصر يزيد بن أبي حبيب وهو أستاذ الليث بن سعد إمام أهل مصر . . . وكثير غير هؤلاء من الموالي . وكان هناك عرب خلص تفرغوا للعلم في هذا العهد كسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وعلقمة بن قيس النخعي .
3- يعتبر هذا العهد – في الجملة – امتدادا لعهد كبار الصحابة من حيث عدم تدوين شيء سوى القرآن الكريم , اللهم إلا النزر اليسير كما تقدم .
4- وبالرغم من أن هذا العهد كانت فيه فتن كبرى إلا أن هذه الفتن كان تأثيرها يكاد ينحصر في أمر الخلافة وما يتصل بها من أحكام .
5- وبالرغم من أن هذا العهد كان معاصرا لعهد الأمويين , والخلفاء في هذه الدولة يتفاوتون في سياستهم بين اللين والشدة والتوسط بينهما , إلا أن الكل كان حريصا على ألا يرتكب كفرا بواحا , ومن فعل منهم شيئا قريبا من ذلك فقد جوبه بالإنكار .
وكان أهل الفقه في هذا العهد يراسل بعضهم بعضا , ويناظر بعضهم بعضا , وينزل بعضهم على رأي بعض , اتباعا للحق , فإن هذا القرن قد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخير , فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { خير الناس قرني ثم الذين يلونهم , ثم الذين يلونهم } .

الطور الرابع : (عهد صغار التابعين وكبار تابعي التابعين) :
يكاد هذا الطور يبدأ في أواخر القرن الأول من الهجرة وأوائل القرن الثاني , ويمكن أن يقال : إنه يبدأ من عهد الإمام العادل عمر بن عبد العزيز .
ويتميز هذا الطور بأنه قد بدئ فيه بتدوين السنة مختلطة بفتاوى الصحابة والتابعين , وذلك بأمر من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز , بعد أن شرح الله صدره لهذا , وخشي أن تضيع السنة وأقوال الصحابة والتابعين , وأن تصبح طي النسيان مع توالي الأزمان , وذلك بعد أن زالت العلة التي خشي معها أن يختلط القرآن بغيره . فقد حفظ القرآن في الصدور والسطور , وأصبح حفظة القرآن بالآلاف , ولا يكاد يوجد بيت مسلم إلا وفيه مصحف , فأمر حملة العلم في عهده بأن يدونوا ما عندهم من سنة وفتاوى الصحابة والتابعين , لتكون مرجعا يرجع إليه .
1- وكان العلماء المشتغلون بالفقه – في هذا العهد – يعتبرون من حملة السنة , ومفسري القرآن الكريم , مع إحاطتهم بأسرار اللغة العربية بالقدر الذي يساعدهم على استنباط الأحكام الشرعية من القرآن والسنة . ولهذا كانت منزلة الفقهاء في هذا العهد منزلة مرموقة يحسب لها الحكام ألف حساب , كما أن العامة كانوا يقدرونهم حق قدرهم , ويرجعون إليهم في حل مشاكلهم , ويعتبرونهم مصابيح هذه الأمة , بصرف النظر عن مراكزهم السياسية في الدولة . نذكر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر : الزهري وحماد بن سلمة شيخ أبي حنيفة .
2- وفي أواخر هذا الطور بدأت تظهر المذاهب الفقهية المتميزة . كما أن هذا الطور شهد تطور التدوين , فبعد أن كان التدوين مختلطا بدأ يأخذ طريق التنظيم , وكان هذا الطور تمهيدا للطور الخامس , وهو طور الأئمة العظام .

الطور الخامس : (طور الاجتهاد) :
ويبدأ هذا الطور مع بدء النهضة العلمية الشاملة في الدولة الإسلامية , من أواخر عهد الأمويين إلى نهاية القرن الرابع الهجري تقريبا , ويمكن أن نقول : إن هذا الطور يتناول عهد الأئمة العظام , والأئمة المنتسبين ومجتهدي المذاهب وأهل الترجيح . كما أن هذا العهد يتناول عهد تدوين المذاهب الفقهية على الصورة العلمية الدقيقة .

مختصر من بعض كتب تاريخ التشريع الإسلامي