شأن اليمين عظيم وينبغي التورع منها والخوف منها، وإذا طلبت اليمين من شخص فحلف وهو صادق في يمينه فلا حرج عليه، ويجوز لمن طُلبت منه اليمين أن يفتدي يمينه بالمال على الراجح من أقوال أهل العلم، لثبوت افتداء اليمين بالمال عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم.

يقول الدكتور حسام عفانه –أستاذ الفقه وأصوله بجامعة القدس بفلسطين-:

إذا طُلبت اليمينُ من شخصٍ فحلف وهو صادق في يمينه فلا حرج عليه، واليمين مشروعة كما هو معلوم، ولكن مطلوب من المسلم أن يحفظ يمينه، كما قال الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} –سورة المائدة الآية 89-.

قال القرطبي: [أي بـتـرك الـحـلـف فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوجه عليكم هذه التكليفات] تفسير القرطبي 6/285.

ونقل القرطبي أيضاً عن بعض المفسرين في قوله تعالى: {ولا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِـحُـوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِـيـعٌ عَلِيمٌ} -سـورة الـبقـرة الآية 224-، [ بأن المعنى لا تكثروا من اليمين بالله تعالى فإنه أهيب للقلوب ولهذا قال الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وذمَّ من كثَّر اليمين فقال الله تعالى:{ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ }والعرب تمتدح بقلة الأيمان…] تفسير القرطبي3/97.

وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ومن توجهت عليه يمين هو فيها صادق، أو توجهت له، أبيح له الحلف، ولا شيء عليه من إثم ولا غيره؛ لأن الله تعالى شرع اليمين، ولا يشرع محرماً. وقد أمر الله تعالى نبيه عليه السلام، أن يقسم على الحق، في ثلاثة مواضع من كتابه. وحلف عمر لأبيٍّ رضي الله عنهما على نخيل، ثم وهبه له، وقال: خفت إن لم أحلف أن يمتنع الناس من الحلف على حقوقهم، فتصير سنة. قال حنبل: بُلي أبو عبد الله- أي الإمام أحمد – بنحو هذا، جاء إليه ابن عمه، فقال: لي قِبَلكَ حقٌ من ميراث أبي، وأطالبك بالقاضي، وأحلفك. فقيل لأبي عبد الله: ما ترى؟ قال: أحلف له، إذا لم يكن له قِبَلي حق، وأنا غيرُ شاكٍ في ذلك حلفت له، وكيف لا أحلف، وعمر قد حلف، وأنا من أنا؟ وعزم أبو عبد الله على اليمين، فكفاه الله ذلك، ورجع الغلام عن تلك المطالبة] المغني10/208.

وقال صاحب الهداية الحنفي: [ومن ادَّعى على آخر مالاً فافتدى يمينه أو صالحه منها على عشرة – مثلاً – فهو جائز] شرح فتح القدير.

ومع ذلك فإن شأن اليمين عظيم، والتورع عن اليمين أمر معروف عند الصحابة والتابعين.

قال الحافظ الهيثمي: باب الورع والخوف من الحلف، وساق فيه مجموعة من الآثار عن الصحابة والتابعين في ذلك، وأين حالهم من حالنا الذي يعبر عنه المثل العامي الدارج بين الناس: (قالوا للحرامي احلف فقال جاء فرج الله)!! فأي استخفاف هذا باليمين!

قال العلامة ابن القيم: [قد ثبت وتقرر أن الإقدام على اليمين يصعب، ويثقل على كثير من الناس، سيما على أهل الدين وذوي المروءات والأقدار، وهذا أمر معتاد بين الناس على ممر الأعصار، لا يمكن جحده. وكذلك روي عن جماعة من الصحابة:أنهم افتدوا أيمانهم، منهم: عثمان، وابن مسعود وغيرهما، وإنما فعلوا ذلك لمروءتهم، ولئلا تسبق الظلمة إليهم إذا حلفوا، فمن يعادي الحالف، ويحب الطعن عليه، يجد طريقاً إلى ذلك، لعظم شأن اليمين وعظم خطرها ] الطرق الحكمية1/125.

إذا تقرر هذا فإنه يجوز لمن طلب منه اليمين أن يفتدي يمينه بالمال على الراجح من أقوال أهل العلم، فقد ثبت افتداء اليمين بالمال عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد روى الطبراني بإسناد جيد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه افتدى يمينه بعشرة آلاف درهم ثم قال: ورب الكعبة لو حلفت، حلفتُ صادقاً وإنما هو شيء افتديت به يميني.

ورواه أيضاً الدارقطني في السنن. وروى عبد الرزاق في المصنف عن معمر قال: سئل الزهري عن الرجل يقع عليه اليمين، فيريد أن يفتدي يمينه، قال: قد كان يُفعل، قد افتدى عبيد السهام – صحابي اسمه عبيد بن سليم الأنصاري الأوسي ويقال له عبيد السهام؛ لأنه كان اشترى من سهام خيبر ثمانية عشر سهماً فقيل له ذلك كما في الإصابة- في إمارة مروان، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة كثير، افتدى يمينه بعشرة آلاف.

وروى عبد الرزاق في المصنف أيضاً عن الأسود بن قيس عن رجل من قومه، قال: عرف حذيفة بعيراً له مع رجل، فخاصمه، فقضي لحذيفة بالبعير، وقضى عليه باليمين، فقال حذيفة: افتدي يمينك بعشرة دراهم، فأبى الرجل، فقال له حذيفة: بعشرين، فأبى، قال: فبثلاثين، قال: فأبى، قال: فبأربعين، فأبى الرجل، فقال حذيفة: أتظن أني لا أحلف على مالي، فحلف عليه حذيفة.

وروى البيهقي في كتاب المعرفة في كتاب أدب القاضي عن الإمام الشافعي قال: بلغني أن عثمان بن عفان رُدت عليه اليمين فافتداها بمال، وقال: أخاف أن يوافق قدر بلاء، فيقال: هذا بيمينه.

وقال البيهقي في آخر الباب وفي كتاب المستخرج لأبي الوليد بإسناد صحيح عن الشعبي: وفيه إرسال، أن رجلاً استقرض من عثمان بن عفان سبعة آلاف درهم، فلما تقاضاه، قال له: إنما هي أربعة آلاف، فخاصمه إلى عمر، فقال: تحلف أنها سبعة آلاف؟ فقال عمر: أنصفك، فأبى عثمان أن يحلف، فقال له عمر: خذ ما أعطاك.

وروى الإمام البخاري بسنده عن أبي قلابة حديثاً طويلاً وفيه: (وقد كانت هذيل خلعوا خليعاً لهم في الجاهلية، فطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء، فانتبه له رجل منهم، فحذفه بالسيف فقتله، فجاءت هذيل فأخذوا اليماني، فرفعوه إلى عمر بالموسم وقالوا: قتل صاحبنا، فقال: إنهم قد خلعوه، فقال: يقسم خمسون من هذيل ما خلعوه، قال: فأقسم منهم تسعة وأربعون رجلاً، وقدم رجل منهم من الشام، فسألوه أن يقسم، فافتدى يمينه منهم بألف درهم، فأدخلوا مكانه رجلاً آخر، فدفعه إلى أخي المقتول، فقرنت يده بيده، قالوا فانطلقنا والخمسون الذين أقسموا حتى إذا كانوا بنخلة أخذتهم السماء – أي المطر- فدخلوا في غار في الجبل، فانهجم الغار على الخمسين الذين أقسموا، فماتوا جميعاً وأفلت القرينان وأتبعهما حجر فكسر رجل أخي المقتول فعاش حولاً ثم مات).

وقد اختلف أهل العلم في أيهما أولى الحلف أم افتداء اليمين؟ والذي نرجحه هو افتداء اليمين.

قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [ واختلف في الأولى، فقال قوم: الحلف أولى من افتداء يمينه؛ لأن عمر حلف؛ ولأن في الحلف فائدتين:

إحداهما، حفظ ماله عن الضياع، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعته.

والثانية، تخليص أخيه الظالم من ظلمه، وأكل المال بغير حقه، وهذا من نصيحته ونصرته بكفه عن ظلمه، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم على رجلٍ أن يحلف ويأخذ حقه.

وقال أصحابنا: الأفضل افتداء يمينه؛ فإن عثمان افتدى يمينه، وقال: خفت أن تصادف قدراً، فيقال حلف فعوقب، أو هذا شؤم يمينه.

وروى الخلال بإسناده، أن حذيفة عرف جملاً سرق له، فخاصم فيه إلى قاضي المسلمين، فصارت اليمين على حذيفة فقال: لك عشرة دراهم. فأبى، فقال لك عشرون، فأبى، فقال: لك ثلاثون، فأبى، فقال: لك أربعون، فأبى، فقال حذيفة: أتراني أترك جملي؟ فحلف بالله أنه له ما باع ولا وهب. ولأن في اليمين عند الحاكم تبذلاً، ولا يأمن أن يصادف قدراً، فينسب إلى الكذب، وأنه عوقب بحلفه كاذباً، وفي ذهاب ماله له أجر، وليس هذا تضييعاً للمال، فإن أخاه المسلم ينتفع به في الدنيا ويغرمه له في الآخرة. وأما عمر، فإنه خاف الاستنان به، وترك الناس الحلف على حقوقهم، فيدل على أنه لولا ذلك، لما حلف، وهذا أولى، والله تعالى أعلم. ] المغني 10 208-209.

ويؤيد ترجيح افتداء اليمين أن في ذلك [ صون عرضه وهو مستحسن عقلاً وشرعاً، ولأنه لو حلف يقع في القيل والقال، فإن الناس بين مصدقٍ ومكذب، فإذا افتدى بيمينه فقد صان عرضه وهو حسن.] البحر الرائق.

ويؤيده أيضاً ما ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( ذبوا عن أعراضكم بأموالكم ) صححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة 3 /445، وفي صحيح الجامع 1/644.

وخلاصة الأمر أن شأن اليمين عظيم وينبغي التورع منها والخوف منها، وإذا طلبت اليمين من شخص فحلف وهو صادق في يمينه فلا حرج عليه، ويجوز لمن طُلبت منه اليمين أن يفتدي يمينه بالمال على الراجح من أقوال أهل العلم، لثبوت افتداء اليمين بالمال عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم. وإذا قبل المدعي افتداء اليمين من المدَّعى عليه فإن حقه في اليمين يسقط ولا تقبل مطالبته باليمين بعد ذلك، لأن القاعدة الفقهية تقول الساقـط لا يعود، يعني إذا أسقط شخصٌ حقاً من الحـقوق التي يجوز إسقاطها، يسقط ذلك الحق وبعد إسقاطه لا يعـود.