البينة التي يستند عليها القاضي ليست محصورة بالشهادة واليمين والإقرار، بل هي أعم من ذلك، فالبينة هي كل ما يظهر الحق وهذا ما اختاره العلامة ابن القيم، والبصمة الوراثية لا مانع من الاعتماد عليها في التحقيق الجنائي في غير الحدود والقصاص، أما كلاب الشرطة فلا يعتمد عليها بمفردها في الإثبات وإنما تعزز الأدلة الأخرى، أما التسجيلات الصوتية والتصوير بالفيديو فلا يعتمد عليها إلا إذا كانت صادرة من جهة موثوق فيها ولا يتطرق إليها شك، وما عدا ذلك فلا يجوز الاعتماد عليها لإمكان التدليس وبخاصة مع ظهور التقنيات الحديثة في الوقت الحاضر.

يقول فضيلة الشيخ هاني بن عبد الله الجبير -القاضي بالمحكمة الكبرى بجدة-:

أولاً :اختلف أهل العلم في البينة التي يستند عليها القاضي في حكمه، هل هي محصورة بالشهادة واليمين والإقرار، أو هي أعم من ذلك، والصواب أن البينة لكل ما يبين الحق ويظهره، وهذا اختيار ابن القيم، قال: – رحمه الله -: “البينة اسم لكل ما بين الحق ويظهره، ومن خصها بالشاهدين أو الشاهد لم يوف مسماها حقه، ولم تأت البينة قط في القرآن مراداً بها الشاهدان، وإنما أتت مراداً بها الحجة والدليل والبرهان، كذلك قول النبي – صلى الله عليه وسلم –: “البينة على المدعي” رواه الترمذي (1341) وغيره المراد به أن عليه ما يصحح دعواه ليحكم له) الطرق الحكمية ص 12.

ثانياً :الدعاوى المعروضة على القضاء ليست نوعاً واحداً، وكل نوع منها يختلف في إثباته عن غيره.
والحدود لا تقام إلا بعد ثبوت موجبها ببينة قاطعة لا يتطرق لها الشك، ومن القواعد المقررة أن الحدود تدرأ بالشبهات.
والتعزيرات يكفي فيها وجود تهمة قوية متجهة على المحكوم عليه، كالاتهام بحدٍ دفعه وجود الشبهة.
وأما الحقوق المالية إذا حصلت فيها خصومة فإنها أوسع مجالاً، فيكفي رجحان أحد جانبي الخصومة في الاعتضاد باليمين لاستحقاق المدعى به أو نفيه.
قال ابن القيم: (اليمين تشرع من جهة أقوى المتداعيين، فأي الخصمين ترجح جانبه جعلت اليمين من جهته) إعلام الموقعين.

ثالثاً :استعمال البينات المعاصرة المستجدة في القضايا المتعلقة بالحقوق المالية لابد منه، لما في إهمالها من تضييع للحقوق، قال ابن القيم: (الشارع لا يهمل بينة ولا يرد حقاً قد ظهر بدليله أبداً، ولا يقف ظهور الحق على أمر معين … ولما ظن هذا من ظنه ضيعوا طريق الحكم، فضاع كثير من الحقوق لتوقف ثبوتها عندهم على طريق معين، وصار الظالم الفاجر ممكناً من ظلمه وفجوره، فضاعت حقوق كثيرة لله ولعباده، وحينئذ أخرج الله أمر حكم العالمين عن أيديهم …) إعلام الموقعين (1/91 ).

رابعاً :القرائن وهي الاستدلال بالأمور المعروفة الحاصلة في القضايا على أمور مجهولة مقبولة معتبرة لترجيح جانب أحد طرفي الخصومة، إذا كان احتمال الخطأ والتزوير فيها ضعيفاً، وأما ما كثر الخطأ فيها واحتمال التزوير فهي غير معتبرة، وما بينهما بحسبه.

خامساً:صدرت بخصوص البصمة الوراثية فتوى المجمع الفقهي الإسلامي بمكة في دورته السادسة عشرة، وتضمنت أن لا مانع شرعاً من الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي، واعتبارها وسيلة إثبات في الجرائم التي ليس فيها حد شرعي ولا قصاص، ولا يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب، لكن يعتمد عليها في حالات التنازع على مجهول النسب، وضياع الأطفال والمواليد في المستشفيات … الخ.

أما كلاب الشرطة فهي إذا تعرفت على شيء كان ذلك مجرد قرينة يمكن الاستناد إليها لتعزيز أدلة أخرى، دون أن تكون دليلاً قائماً بذاته.
وكذلك الحال في التسجيلات الصوتية إذا تمت مضاهاتها بالبصمة الصوتية، وثبتت نسبتها إلى من نسبت إليه فإنها إن تمت من جهة لا يتطرق الشك إليها، وإلا فلا يعتمد عليها لإمكان التدليس والتصوير، فإن تم من جهة رسمية لا يتطرق الشك في احتمال تزويرها أو تغييرها وأمكن القطع بمطابقتها لمن نسبت إليه فهي قرينة كذلك، وإلا فإنه يصعب التعويل عليها لإمكان إحداث التغيير وتعديل الشكل والملامح كما هو واقع.
والله تعالى أعلم.