جمهور العلماء على أنه لا يجوز مس القرآن لمن كان على غير طهارة، أما القراءة فلا مانع منها بدون مس المصحف، ويستثنى من وجوب الوضوء للقراءة مع المس الصبيان الذين يحفظون القرآن وإن كان تعودهم على الوضوء أفضل.

يقول الدكتور عبد الحليم محمود -رحمه الله-:

إن قراءة القرآن على غير وضوء جائزة ما دام القارئ طاهرًا من الجنابة ، وقد ورد أن سيدنا عمر – رضي الله عنه – كان يقرؤه على غير وضوء ، فلما سُئِل في ذلك أجاب بما يفيد أنه جائز ، وأما حمله على غير وضوء ، فقد أجاز أبو حنيفة – رضي الله عنه – ذلك إذا كان بغلافه، أي : إذا كان مُغلفًا داخل كساء .

ولقد اختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء ، فالجمهور على المنع من مسِّه ، ويقول الإمام القرطبي : واختلفت الرواية عن أبي حنيفة فرُويَ عنه أنه يَمَسُّه المُحدِث حدثًا أصغر ، وقد رُوِيَ هذا عن جماعة من السلَف ، منهم ابن عباس وغيره .

ويقول الإمام القرطبي – أيضًا – : وقد رُويَ عن الحكم وحماد وداود بن علي أنه لا بأس بحمله ومسِّه للمسلم طاهرًا أو محدثًا حدثًا أصغر ، أما مس الصبيان للمصحف فالأظهر الجواز ؛ لأنه لو مُنِع لم يَحفَظ القرآن .

وبعدُ : فإنه مما لا شك فيه أن مس المصحف على طهارة كاملة من الأمور التي يحرص عليها المؤمن كلما أُتِيحت له الفرصة لذلك ، وهو في هذا يَسِير مع الوضع الصحيح لتكريم المصحف واحترامه ، بيد أنه تحدُث ظروف لا يتمكَّن الإنسان فيها من الوُضوء لسبب من الأسباب ، وتكون في الوقت نفسه الفرصة مُتاحةً للقراءة في المصحف ، وفي هذه الحالة للإنسان أن يأخذ برأي الأئمة الذين أباحوا مسَّه على غير وضوء ، وأن ذلك خير من أن يترُك فرصةً متاحةً للقراءة والثواب .

ويقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في كتاب فقه الطهارة :

ومما أوجبوا الوضوء له: مس المصحف. وقد روي هذا عن ابن عمر، والحسن، وعطاء، وطاوس، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد، وجمهور الفقهاء.

وقال داود وأهل الظاهر: يباح مسه. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه إلى قيصر آية من القرآن في رسالة إليه، وهو يعلم أنه سيمس هذه الرسالة.

ولكن هذا الدليل ليس بناهض، لأن الآية لا تسمى مصحفا.

واستدل الجمهور بقوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون)، وبحديث عمرو بن حزم: “لا يمس القرآن إلا طاهر”.

أما الآية، ففي الاستدلال بها ضعف، لأن الضمير في قوله (لا يمسه) يحتمل أن يعود على القرآن الكريم، أو على الكتاب المكنون، في قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ *فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ *لَّايَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) الواقعة: 77-79 والأرجح عودته إلى الكتاب المكنون ـ وهو اللوح المحفوظ ـ لأنه أقرب مذكور. وهنا يكون معنى (المطهرون): هم الملائكة الذين طهرهم الله تعالى وقدسهم وعصمهم من المعاصي (لَايَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَايُؤْمَرُونَ) التحريم: 6.

ومعنى النص: أنه القرآن قد صانه الله في كتاب مكنون ومحفوظ عنده، لا يمسه ولا يصل إليه إلا الملائكة المطهرون المقربون، فلا يصل إليه الشياطين (وَمَايَنبَغِي لَهُمْ وَمَايَسْتَطِيعُونَ *إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) الشعراء: 211،212.

ومما يرجح هذا: أنه قال (المطهرون)، ولم يقل: (المتطهرون) كما هو شأن المؤمنين من البشر، الذين قال الله فيهم (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) البقرة: 222.

وإذن لا دلالة في الآية على منع مس المصحف.

بقي الحديث، وهو الذي رواه عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه له، لما وجهه إلى اليمن، قال النووي: وإسناده ضعيف. رواه مالك في (الموطأ) مرسلا، ورواه البيهقي أيضا من رواية ابن عمر.

وقال الحافظ ابن حجر في (بلوغ المرام): الحديث معلول.

وقال الصنعاني في (سبل السلام): كتاب عمرو بن حزم تلقاه الناس بالقبول. وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم كتابا أصح من هذا الكتاب، فإن الصحابة والتابعين يرجعون إليه، ويدعون رأيهم.

وقال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز، وإمام عصره الزهري بالصحة لهذا الكتاب.

قال: وفي الباب في (مجمع الزوائد) من حديث عبد الله بن عمر “لا يمس القرآن إلا طاهر” قال الهيثمي: رجاله موثقون.

قال: لكن يبقى النظر في المراد من (الطاهر) فإن لفظه مشترك: يطلق على الطاهر من الحدث الأكبر، والطاهر من الحدث الأصغر، ويطلق على المؤمن، وعلى من ليس على بدنه نجاسة، ولا بد لحمله على معين من قرينة. وأما قوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) الواقعة: 79 فالأوضح: أن الضمير للكتاب المكنون، الذي سبق ذكره في صدر الآية، وأن (المطهرون) هم الملائكة.

وهناك قرينة تعين أحد معاني المشرك هنا، وهي: أن الطاهر هو المؤمن، بدليل الحديث الصحيح “إن المؤمن لا ينجس” وقوله تعالى: (إنما المشركون نجس) التوبة: 28 ويكون معنى الحديث: ألاّ يمكن المشرك من مس القرآن. لأنه لا يمسه معظما له، ولا معترفا به، بل ممتهنا له، وبهذا يتفق مع النهي عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو، خشية أن تناله أيديهم. أي تناله بالإساءة والعدوان.

والذين منعوا المحدث من مس المصحف اختلفوا في حكم حمله.

فمنهم من قال: يجوز حمله بعلاقته. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأحمد. وروي ذلك عن الحسن، وعطاء، والشعبي، وحماد. ومنع منه الأوزاعي، ومالك، والشافعي؛ تعظيما للقرآن. ولأنه مُكَلَّفٌ مُحْدِث قاصد لحمل المصحف، فهو كما لو حمله مع مسه.

والراجح: قول من جوز الحمل، لأنه غير ماس، فلم يمنع، كما لو حمله في رَحْلِه، ولأن النهي إنما تناول المس، والحمل ليس بمس، وقياسهم لا يصح؛ لأن العلة في الأصل مسه، وهو غير موجود في الفرع، والحمل لا أثر له، فلا يصح التعليل به. وعلى هذا لو حمله بحائل بينه وبينه مما لا يتبع في البيع، جاز، وعندهم لا يجوز.

ويجوز تقليبه بعود ومسه به، وكتب المصحف بيده من غير أن يمسه، والصحيح في ذلك الجواز؛ لأن النهي إنما تناول مسه، وهذا ليس بمس.

يقول فضيلة الشيخ عطية صقر ـ رحمه الله ـ في كتابه أحسن الكلام في الفتوى والأحكام:

اختلف الفقهاء في حمل المصحف لمن أحدث حدثا أصغر، على النحو التالي :

– جمهور العلماء على حرمة مس المصحف وحمله، وذهب إليه مالك والشافعي وأبو حنيفة في إحدى الروايتين .

-وجوز بعض العلماء ذلك، وذهب إليه أبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه، كما جوزه داود بن علي.

وقد استثنى بعض المحرمين لحمل المصحف ومسه مع الحدث الأصغر- الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم، لحاجتهم إلى حفظ القرآن وتيسيره عليهم، على أن الصبي لو تطهر فطهارته ناقصة لعدم صحة النية منه، ويقاس عليهم الكبار المحتاجون لحفظ القرآن أما من أجل التعبد فلا بد من الطهارة.

هذا، وقراءة القرآن بدون مس للمصحف أو حمله جائزة لمن عليه حدث أصغر، وذلك باتفاق الفقهاء، وإن كان الأفضل الطهارة، وبخاصة إذا كان يقصد التعبد، فالعبادة مع الطهارة أكمل وأرجى للقبول. انتهى