دلت الأدلة الكثيرة الناصعة على أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يجتهد، بل هو سيد المجتهدين وإمامهم، كما أنه إمام أمته في كل فضيلة، والاجتهاد لاستنباط الأحكام من النصوص هو من أجل الفضائل، وأعظم المكارم، فينبغي أن يكون أسوة فيها، كما في غيرها.

والاجتهاد معناه: بذل الوسع لنيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط. أي أنه عملية بشرية عقلية، يشحذ المجتهد ذهنه ليستنبط الحكم من مظانه الشرعية المعتبرة.
ومقتضى هذا: أن الرسول حين يجتهد يعمل عقله كما يعمل البشر، ويفكر كما يفكر البشر، وما دام في هذه الحالة البشرية، فلا غرو أن يقع منه الخطأ كما يقع من سائر البشر. وإلا لم يكن هناك فرق بين الاجتهاد البشري والوحي الإلهي.

إلا أن الذي يميزه هنا عن غيره عليه الصلاة والسلام: أنه لا يقر على الخطأ، ولا يسكت عليه، حتى لا يأخذه الناس عنه على أنه الحق والصواب الذي شرعه الله تعالى.
ومن الأدلة البينة على ذلك: عدد من الوقائع التي ذكرها القرآن الكريم، وعاتب فيها الله تبارك وتعالى نبيه ومصطفاه محمدًا صلى الله عليه وسلم.

من هذه الوقائع: موقفه عليه الصلاة والسلام من ابن أم مكتوم، المسلم الأعمى، الذي شغل عنه الرسول الكريم، بلقاء كبار قريش، عسى الله أن يشرح صدورهم للإسلام، فعني بهم، وسئل عن هذا الرجل الأعمى؛ حيث وكله إلى إيمانه، اجتهادًا منه، ولكن الله تعالى غار له وأنزل فيه قرآنا يتلى:{عبس وتولى.أن جاءه الأعمى. وما يدريك لعله يزكى. أو يذكر فتنفعه الذكرى. أما من استغنى فأنت له تصدى. وما عليك ألا يزكى. وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى}عبس:1ـ 10.

ومن ذلك: قبوله أعذار المنافقين المنسحبين من عبء الجهاد في غزوة تبوك(غزوة العسرة)، دون أن يتبين حقيقة موقفهم. قال تعالى:{عفا الله عنك، لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين.لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين.إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون}التوبة:43ـ 45

والقضية واضحة تمام الوضوح، لنصاعة أدلتها من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فإذا نظرنا إلى القرآن نجده ينسب إلى الأنبياء أشياء قالوها أو فعلوها أو حكموا بها، اجتهادا منهم، فمنهم من أصاب ومنهم من أخطأ، ولم يَلُم الله تعالى المخطئ على خطئه؛ لأنه وقع منه بعد تحر واجتهاد منه.
وأبرز مثل لذلك قوله تعالى عن الرسولين الكريمين داود وسليمان اللذين أثنى عليهما القرآن ثناء عاطرًا، في أكثر من سورة، ولا سيما في النمل وفي سبأ، وفي ص:{وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين.ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكمًا وعلمًا}الأنبياء:78ـ79

وموسى عليه السلام حين صحب الخضر وشارطه ألا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكرًا، وقبل هذا الشرط، ومع هذا خالف الشرط وسأله سؤال المنكر لِما رأى، حين خرق السفينة قال:{أخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئا إمرًا}وقال حين قتل الغلام:{أقتلت نفسًا زكية بغير نفس لقد جئت شيئًا نكرًا}إلى آخر القصة، إنما قال ما قال اجتهادًا منه، وبحكم ظاهر هذه الأمور الذي يقتضي الإنكار. لولا أنه فسر له بعد ذلك: لماذا فعل ما فعل، ثم قال:{وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرًا}القصة في الكهف من:71ـ 74

ويونس عليه السلام ذهب عن قومه وتركهم مغاضبًا لهم، وليس بوحي من الله تعالى، فأصابه ما أصابه من التقام الحوت وهو مليم. ونادى في الظلمات {أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}الأنبياء:87

وأما نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم)، فقد ثبت اجتهاده في قضايا كثيرة، ذكرها العلماء. بعضها ثبت بصريح القرآن الكريم. وبعضها ثبت بالحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم. بعضها في أمور الدنيا المحضة، وبعضها في أمور الدين والتشريع.

اجتهاده صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا:
فأما ما اجتهد فيه وأخطأ في أمور الدنيا، فأشهر مثال له: قضية تأبير النخل في المدينة، حين رآهم يلقحون النخيل كما هي عادة أهلها، فسألهم عن ذلك فأجابوه بما عرفوه من عادتهم، فقال: ما أظنه يصلح. ولم يكن ذلك بوحي من الله، بل اجتهادًا منه بحكم خبرته البشرية، وقد نشأ بوادي غير ذي زرع، فلا معرفة له بهذه الأمور، ولكن الأنصار ظنوه وحيًا، فتركوا التأبير، فلم تثمر النخيل في ذلك الموسم ثمرها المعتاد، ورآها النبي عليه السلام، فأنكرها، فسألهم عما أصابها، فأخبروه بأنهم نفذوا مشورته حين قال لهم ما قال، فقال عليه الصلاة والسلام:”إنما ظنت ظنًّا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن ما حدثتكم عن الله، فلن أكذب على الله. أنتم أعلم بأمر دنياكم”

ومن تلك الوقائع والمواقف: موقفه (صلى الله عليه وسلم) من أسرى بدر، وقد استشار فيهم أصحابه فاختلفوا عليه، وأخذ برأي أبي بكر ومن وافقه، ونزلت الآيات في سورة الأنفال تعاتبهم على ذلك.
ومن هذه الوقائع ما ذكره الشيخ عبد الجليل عيسى من علماء الأزهر البارزين في كتابه (اجتهاد نبي الإسلام):
روى البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:
1ـ “والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أن يجد عَرْقا سمينا، أو مِرماتين حسنتين لشهد العشاء. وفي رواية مسلم:”أخر صلى الله عليه وسلم العشاء ليلة فخرج فوجد الناس قليلا فغضب … فذكر الحديث.”.

2ـ ولكنه لم يفعل ما هم على فعله إما باجتهاد آخر، أو بوحي من الله في ذلك.
ويروي مسلم عن عائشة رضي الله عنها، عن جدامة بنت وهب الأسدية أنها سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول:
1ـ”لقد هممت أن أنهى عن نكاح الغيلة.
2ـ حتى ذكرت أن الروم وفارس يصنعون ذلك فلا يضر أولادهم”.

قال العلماء: وسبب همه (صلى الله عليه وسلم) بالنهي عنها خوف الضرر على الولد الرضيع. وكانوا يقولون: إن الأطباء ترى هذا اللبن داء، إذا شربه الولد ضوي واعتل؛ فلذا كانت العرب تكرهه وتتقيه بقدر الطاقة.
والنووي يعلق على هذا الحديث بقوله: وفي الحديث جواز اجتهاده (صلى الله عليه وسلم) وبه قال جمهور أهل الأصول.
وأيضًا هنا في صورة العزم وعدم الفعل يشق على الإنسان تحديد وقت العدول عن تنفيذه (صلى الله عليه وسلم) ما همّ أن يفعله، للسبب الذي ذكرناه فيما سبق.
وروى البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أنه قال: بعثنا (صلى الله عليه وسلم) في بعث، فقال:
“إن لقيتم فلانا وفلانا ـ لرجلين من قريش سماهما ـ فحرقوهما بالنار.
ثم أتيناه نودعه حين أردنا الخروج، فقال: إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن أخذتموهما فاقتلوهما”.وفي رواية ابن إسحاق:”… ثم رأيت أنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا الله”.

ويعلق الحافظ بن حجر بقوله: وفي الحديث جواز الحكم بالشيء اجتهادًا ثم الرجوع عنه.
ويروي مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنه قال: كنا قعودًا حول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ـ معنا أبو بكر وعمر في نفر ـ فقام (صلى الله عليه وسلم) من بين أظهرنا فأبطأ علينا، وخشينا أن يقتطع دوننا، وفزعنا، فقمنا، فكنت أول من فزع حتى أتيت حائطًا للأنصار لبني النجار فدرت حوله حتى دخلته، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:”أبو هريرة؟ فقلت: نعم، يا رسول الله. قال: ما شأنك؟ قلت: كنت بين أظهرنا ….وذكر ما حصل.

فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، اذهب، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه فبشره بالجنة.
فكان أول من لقيت عمر. فسألني فقلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بشرته بالجنة.
فضرب عمر بيده بين ثديي فخررت لاستي، فقال: ارجع يا أبا هريرة، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بكاء، وركبني عمر، فإذا هو على إثري. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أبا هريرة؟ قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به فضرب بين ثديي ضربة خررت لاستي، قال ارجع.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر ما حملك على ما فعلت؟ قال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي أبعثت أبا هريرة من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قلبه بشره بالجنة؟.قال: نعم، قال: فلا تفعل، فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:فخلهم”
والحقيقة هي:أن الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد يجتهد في بعض الأمور التي ليس فيها وحي، وقد يخطئ فيها، كما هو شأن المجتهد دائمًا، ولكن مزيته (صلى الله عليه وسلم) على غيره: أن الله تعالى لا يقره على الخطأ، فسرعان ما ينزل عليه الوحي يستدرك عليه، ويصحح له خطأه؛ لأنه لو ترك الخطأ دون تصحيح وتصويب، لأصبح شرعًا للناس عليهم أن يتبعوه وينفذوه؛ لأن الله لم يرسله إلا ليطاع بإذن الله.

وهذه القضية خلافًا بين علماء الأصول، وأن منهم من لم يقل بجواز الاجتهاد للرسول ولا للرسل من قبله، وإذا لم يكن الاجتهاد جائزًا له، فلا يتصور الخطأ منه. وأن من الأصوليين من رجح هذا القول.
ولكن نرجح القول الآخر الذي قال به عدد من الأصوليين المعتبرين، من أمثال الآمدي وابن الحاجب وابن الهمام.
وهو ما اختاره العلامة الشوكاني من المتأخرين في كتابه(إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول)وقال: إنه قول الجمهور.

ترجيح الآمدي:
قال العلامة الآمدي في (الإحكام): اختلفوا في أن النبي عليه السلام، هل كان متعبدًا بالاجتهاد فيما لا نص فيه؟
فقال أحمد بن حنبل والقاضي أبو يوسف: إنه كان متعبدًا به.
وقال أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم(من المعتزلة) إنه لم يكن متعبدًا به.
وجوز الشافعي في رسالته ذلك من غير قطع. وبه قال بعض أصحاب الشافعي والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري (من المعتزلة).
ومن الناس من قال إنه كان له الاجتهاد في أمور الحروب، دون الأحكام الشرعية.
والمختار جواز ذلك عقلا ووقوعه سمعًا.
أما الجواز العقلي، فلأنا لو فرضنا أن الله تعالى تعبده بذلك، وقال له: “حكمي عليك أن تجتهد وتقيس” لم يلزم عنه لذاته محال عقلا، ولا معنى للجواز العقلي سوى ذلك.

وأما الوقوع السمعي فيدل عليه الكتاب، والسنة، والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى{فاعتبروا يا أولي الأبصار}الحشر:2 أمر بالاعتبار على العموم لأهل البصائر، والنبي عليه السلام، أجلهم في ذلك، فكان داخلا في العموم، وهو دليل التعبد بالاجتهاد والقياس، على ما سبق تقريره في إثبات القياس على منكريه.

وأيضًا قوله تعالى:{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله}النساء:105 وما أراه يعم الحكم بالنص، والاستنباط من النصوص.
وأيضًا قوله تعالى{وشاورهم في الأمر}آل عمران:159 والمشاورة إنما تكون فيما يحكم فيه بطريق الاجتهاد، لا فيما يحكم فيه بطريق الوحي.

وأيضًا قوله تعالى بطريق العتاب للنبي عليه السلام، في أسارى بدر، وقد أطلقهم:{ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض}الأنفال:67 فقال عليه السلام:”لو نزل من السماء إلى الأرض عذاب، ما نجا منه إلا عمر”؛ لأنه كان قد أشار بقتلهم، وذلك يدل على أن ذلك كان بالاجتهاد، لا بالوحي. وأيضًا قوله تعالى:{عفا الله عنك لِمَ أذنت لهم؟}التوبة:43، عاتبه على ذلك ونسبه إلى الخطأ، وذلك لا يكون فيما حكم فيه بالوحي، فلم يبق سوى الاجتهاد.
وليس ذلك خاصًّا بالنبي عليه السلام، بل كان غيره أيضًا من الأنبياء متعبدًا بذلك. ويدل عليه قوله تعالى{وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث}الأنبياء:78 وقوله{ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكمًا وعلمًا}الأنبياء:79 وما يذكر بالتفهيم إنما يكون بالاجتهاد لا بطريق الوحي.

وأما السنة فما روى الشعبي أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقضي القضية، وينزل القرآن بعد ذلك بغير ما كان قضى به، فيترك ما قضى به على حاله، ويستقبل ما نزل به القرآن؛ والحكم بغير القرآن لا يكون إلا باجتهاد.
وأيضًا ما روي عنه أنه قال في مكة:”لا يختلا خلاها، ولا يعضد شجرها”. فقال العباس:إلا الأَذْخِر. فقال عليه السلام: “إلا الأذخر”ومعلوم أن الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة، فكان الاستثناء بالاجتهاد.

وأيضًا ما روي عنه عليه السلام أنه قال”العلماء ورثة الأنبياء“وذلك يدل على أنه كان متعبدًا بالاجتهاد، وإلا لما كانت علماء أمته وارثة لذلك عنه، وهو خلاف الخبر.
وأما المعقول فمن وجهين:
الأول: أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بدلالة النص لظهوره؛ وزيادة المشقة سبب لزيادة الثواب؛ لقوله عليه السلام لعائشة “ثوابك على قدر نَصَبِكِ” فلو لم يكن النبي عليه السلام عاملا بالاجتهاد مع عمل أمته به. لزم اختصاصهم بفضيلةٍ لم توجد له، وهو ممتنع، فإن آحاد أمة النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون أفضل من النبي في شيء أصلا.

الثاني: أن القياس هو النظر في ملاحظة المعنى المستنبط من الحكم المنصوص عليه، وإلحاق نظير المنصوص به، بواسطة المعنى المستنبط، والنبي عليه السلام أولى بمعرفة ذلك من غيره لسلامة نظره، وبعده عن الخطأ، والإقرار عليه. وإذا عرف ذلك فقد ترجح في نظره إثبات الحكم في الفرع ضرورة؛ فلو لم يقض به، لكان تاركًا لما ظنه حكمًا لله تعالى على بصيرة منه، وهو حرام بالإجماع.

هذا وقد ذكر الإمام الآمدي مشاغبات المخالفين في هذه القضية من النصوص ومن المعقول، وفصلها، ثم رد عليها بما يبين تهافتها وضعفها، فثبت ما رجحه الآمدي والحمد لله.

ترجيح الإمام الشوكاني:
وذكر الإمام الشوكاني من كتابه (إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول) (في جواز الاجتهاد للأنبياء)، خلاصة الأقوال في هذه المسألة، فقال رحمه الله:
اختلفوا في جواز الاجتهاد للأنبياء، صلوات الله عليهم، بعد أن أجمعوا على أنه يجوز عقلا تعبدهم بالاجتهاد كغيرهم من المجتهدين، حكى هذا الإجماع ابن فورك، والأستاذ أبو منصور‎، وأجمعوا أيضًا على أنه يجوز لهم الاجتهاد فيما يتعلق بمصالح الدنيا، وتدبير الحروب، ونحو، حكى هذا الإجماع سليم الرازي، وابن حزم.

وذلك وقع من نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من إرادته بأن يصالح”غطفان”على ثلث ثمار المدينة، وكذلك ما كان قد عزم عليه من ترك تلقيح ثمار المدينة.
فأما اجتهادهم في الأحكام الشرعية، والأمور الدينية، فقد اختلفوا في ذلك على مذاهب:

المذهب الأول:

ليس لهم ذلك؛ لقدرتهم على النص بنزول الوحي، وقد قال سبحانه:{إن هو إلا وحي يوحى}النجم:4 والضمير يرجع إلى النطق المذكور قبله بقول:{وما ينطق عن الهوى}النجم:3 وقد حكى هذا المذهب الأستاذ أبو منصور عن أصحاب الرأي.

وقال القاضي في” التقريب”: كل من نفى القياس أحال تعبد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به
قال الزركشي: وهو ظاهر اختيار ابن حزم.
واحتجوا أيضًا بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا سئل ينتظر الوحي، ويقول: ما أنزل عليّ في هذا شيء، كما قال لما سُئل عن زكاة الحمير. فقال لم ينزل عليّ (في ذلك)إلا هذه الآية الجـامعة{فـمن يعمل مثقـال ذرة خـيرًا يره ومن يـعمل مـثقال ذرة شرًّا يره}وكذلك انتظر الوحي في كثير مما سئل عنه.
ومن الذاهبين إلى هذا المذهب، أبو علي، وأبو هاشم( الحبائيان من المعتزلة).

المذهب الثاني:

أنه يجوز الاجتهاد لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ولغيره من الأنبياء، وإليه ذهب الجمهور.
واحتجوا بأن الله سبحانه خاطب نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) كما خاطب عباده، وضرب له الأمثال، وأمره بالتدبر والاعتبار، وهو أجل المتفكرين في آيات الله، وأعظم المعتبرين بها.
وأما قوله:{وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}النجم 3، 4 فالمراد به القرآن؛ لأنهم قالوا{إنما يعلمه بشر}النحل:103 ولو سلم، لم يدل على نفي اجتهاده؛ لأنه صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان متعبدًا بالاجتهاد بالوحي، لم يكن نطقًا عن الهوى، بل عن الوحي.

وإذا جاز لغيره من الأمة أن يجتهد بالإجماع، مع كونه معرضًا للخطأ، فلأن يجوز لمن هو معصوم عن الخطأ بالأولى.
وأيضا قد وقع ذلك كثيرًا منه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن غيره من الأنبياء.
فأما منه، فمثل قوله:”أرأيت لو تمضمضت؟” “أرأيت لو كان على أبيك دين؟” وقوله للعباس “إلا الإذخر” ولم ينتظر الوحي في هذا، ولا في كثير مما سئل عنه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “ألا وإني أوتيت القرآن معه”
وأما من غيره فمثل قصة داود وسليمان.
وأما ما احتج به المانعون، من أنه صلى الله عليه وآله وسلم لو جاز له الاجتهاد، لجازت مخالفته، واللازم باطل.
وبيان الملازمة: أن ذلك الذي قاله بالاجتهاد هو حكم من أحكام الاجتهاد، ومن لوازم أحكام الاجتهاد جواز المخالفة؛ إذ لا قطع بأنه حكم الله، لكونه محتملا للإصابة، ومحتملا للخطأ، فقد أجيب عنه بمنع كون اجتهاد غيره، لعدم اقترانه بما اقترن به اجتهاده صلى الله عليه وآله وسلم من الأمر باتباعه.

وأما ما احتجوا به من أنه لو كان متعبدًا بالاجتهاد لما تأخر في جواب سؤال سائل، فقد أجيب عنه بأنه إنما تأخر في بعض المواطن، لجواز أن ينزل عليه فيه الوحي الذي عدمه شرط في صحة اجتهاده، على أنه قد يتأخر الجواب لمجرد الاستثبات في الجواب، والنظر فيما ينبغي النظر فيه في الحادثة، كما يقع ذلك من غيره من المجتهدين.

المذهب الثالث:
الوقف عن القطع بشيء من ذلك، وزعم الصيرفي في “شرح الرسالة”أنه مذهب الشافعي؛ لأنه حكى الأقوال ولم يختر شيئًا منها. واختار هذا القاضي أبو بكر الباقلاني، والغزالي.

قال الإمام الآمدي:
ولا وجه للوقف في هذه المسألة، لما قدمنا من الأدلة الدالة على الوقوع، على أنه يدل على ذلك دلالة واضحة ظاهرة قول الله عز وجل:{عفا الله عنك لم أذنت لهم}التوبة:43 فعاتبه على ما وقع منه، ولو كان ذلك بالوحي لم يعاتبه.
ومن ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم، من قوله: “لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي” أي لو علمت أولاً ما علمت آخرًا ما فعلت ذلك، ومثل ذلك لا يكون فيما عمله صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي، وأمثال ذلك كثيرة، كمعاتبته صلى الله عليه وآله وسلم على أخذ الفداء من أسرى بدر بقوله تعالى:{ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض}الأنفال:67 وكما في معاتبته صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى:{وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك}الأحزاب:37إلى آخر ما قصه الله في ذلك في كتابه العزيز.

والاستيفاء لمثل هذا يفضي إلى بسط طويل، وفيما ذكرناه يغني عن ذلك، ولم يأتِ المانعون بحجة المنع، أو التوقف لأجلها.
والخلاصة هنا ما قاله الشيخ عبد الجليل عيسى:
الآن قد ذكرنا من الأمثلة والشواهد ما يدل على وقوع الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم متنوعًا حسب طبيعة الإنسان؛ فرأيناه اجتهد وعبر عن اجتهاده بالقول مرة، والعمل والفعل أخرى، وإقرار رأي بعض صحابته أو عدم إقراره إياه ثالثة.
والاجتهاد منه إذن مؤكد الوقوع، سواء أكان عن طريق القرآن الكريم أو السنة الصحيحة.

وموضوع اجتهاده عليه السلام لم يكن خاصًّا بموضوع معين ولا بوقت ومكان؛ بل تناول عدة أمور من واقع حياته وحياة المؤمنين معه، وما لم يكن من واقع حياته وحياة المؤمنين معه كذلك ـ كما في حديث نسل الممسوخ وحديث عذاب القبرـ وامتد إلى تعبير الرؤيا بل رأى بعض العلماء أنه تناول فهم القرآن، ونحن لا نقر ذلك الرأي لما فيه من الخطورة، وحدث في أزمنة متعددة وأمكنة مختلفة.

كما لم يكن رأيه عليه السلام فيما اجتهد فيه، يمثل الصواب دائمًا، ولا محل رضاء الله تعالى عنه دائمًا كذلك، كما أن تصويب الخطأ في رأيه من المولى جل شأنه، أو منه عليه السلام أو من صحابته، لم يكن دائمًا أبدًا عقب ظهور الرأي مباشرة؛ بل قد كشفت الأيام عن خطأ هذا الرأي في بعض الأحايين، أو كان سببًا في أن عاتبه عليه مولاه جل شأنه، أوقع التصويب بعد فترة زمنية تقصر وتطول، مما لا يدع شكًّا في أن الرسول بشر يجوز عليه ـ عدا ما خصه به الله ـ ما يجوز على أي بشر آخر.
فالفصول الثلاثة من الباب الثاني تصور في جملتها تنوع اجتهاده صلى الله عليه وسلم، وبالتالي تصور وقوع اجتهاد منه، وفي غير أمر واحد وغير زمان واحد، وغير مكان واحد.

وفيما أبداه عليه السلام من رأي في تلقيح النخل أظهرت الأيام عدم نفعه لمن أخذوا به ـ كما لم يجئ وحي بشأنه ـ والله سبحانه وتعالى إذ يوافقه على ما رأى وطلب بقوله:{قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها}، لا يوافقه على ما رأى وطلب في ناحية أخرى، كما جاء في قوله:{قد نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون…}؛ بل قد يعاتبه ـ وأحيانًا يشتد في العتاب ـ على ما رأى عليه السلام مثل ما جاء في قوله تعالى:{وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه}، وفي قوله:{فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك…الآية}وفي قوله:{وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره… الآية}، وفي قوله:{عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا…}، وفي قوله:{ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم…}.

وفيما نقل عنه عليه السلام تعديلا لرأيه الأول في حديث التحريق بالنار ـ في رواية البخاري عن أبي هريرة ـ وفيما أوحى إليه من الله جل شأنه في أمر عذاب القبر ـ في رواية مسلم عن عائشة ـ وفيما ذكره تعالى اسمه إجابة لما رأى وطلب في شأن القبلة ـ في سورة البقرة ـ يدل على وجود فترة زمنية لا يعرف مقدارها على وجه الدقة بين الرأي ومجيء الصواب به أو بين الطلب وإجابته.
1ـ فالاجتهاد جاز على الرسول صلوات الله عليه إذن لأنه وقع منه.
2ـ وموضوعه متنوع، ديني أو دنيوي، مغيب أو مشاهد، كما يؤخذ من الروايات المذكورة.