جمع المال من وجوه الحل على وجه لا يقسو به القلب ولا يوجب الطغيان مع أداء الواجبات فيه مندوب إليه شرعا .

وتبذير المال وإنفاق كل ما جمع ولو كان ذلك فى سبيل الله منهي عنه، ورعاية لحق الورثة ولتعطيل شرعية الزكاة ، و لا يعارض هذا ما ذهب إليه أبو ذر الغفارى -رضى الله عنه- من وجوب إنفاق جميع المال الفاضل عن الحاجة عملا بظاهر الآية الكريمة ؛لأن المراد بالكنز فيها هو المال الذى لم يخرج منه ما وجب إخراجه.

هذا ، وقد سئل الشيخ حسن مأمون – مفتي مصر الأسبق رحمه الله- بتاريخ ذي القعدة 1375 هجرية – 24 يونيه1956 م فأجاب :

إن الإسلام لم يحرم جمع المال وادخاره، بل ندب إلى جمعه من وجوه الحق مع المحافظة على مواساة أرباب الحاجات، وإخراج الواجبات والصدقات وتفريج الكروب والتيسير على المعسرين، وإطعام اليتيم والبائس والمسكين كما أمر بإخراج الزكاة، يأخذها الإمام قهرا من الرأسماليين لينفقها على الفقراء والمحتاجين .

وتلك هى الاشتراكية المنظمة التي تسير جنبا إلى جنب مع مبدأ العدالة ونظام التعاون، والتي ترمي إلى حفظ النظام وعدم إثارة الفوضى بين أفراد الإنسانية، وعدم التبرم والامتعاض من أي ناحية فيها – كما ترمي إلى مقصد واحد هو الإبقاء على النوع الإنساني صحيح الحياة هانىء العيش – وإن الناظر فى القرآن الكريم يجد جميع آياته في هذا الصدد تدعو في رفق ولين إلى التعاطف والتراحم، وتشرح للناس مبدأ الأخوة وما يستوجبه في تأثير وبلاغة .

يقول الله سبحانه وتعالى: “مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً” [البقرة : 245] ويقول جلت قدرته { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) [المؤمنون : 1 – 4] ، ويقول لنبيه عليه الصلاة والسلام { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة : 103] وإن الإنسان لو وقف على ما في الزكاة من نظام لتأكد له أن مشروعيتها قد لوحظ فيها عدم تبرم الغنى وسد حاجة الفقير .

فإن إشراك الفقير في مال الغني محدد مقدر مشروط . إذن ففرضية الزكاة على النظام الشرعى اشتراكية مهذبة معقولة يستسيغها العقل، وتهدأ إليها نفس صاحب المال، وتطيب بها روح الفقير الطامع الطامح الذى يريد أن يدمر كل شىء يعترضه فى سبيل الوصول إلى رزقه .

ومن هذا يتبين أنه لا بد من تفاوت الناس وتفاضلهم في الرزق، وأن جمع المال قد حث عليه الإسلام بشرط أن يكون ذلك من وجوه الحل، وأن يكون على وجه لا يقسو به القلب ولا يوجب الطغيان والتجبر والكبرياء والترفع عن أداء ما وجب فيه من الحقوق والواجبات التي لوحظ في مشروعيتها المحافظة على حق الفقير وصاحب المال ، فبينما نجد الإسلام قد حث صاحب المال على أداء الواجبات نهاه عن الإسراف وتبذير المال إلى حد يجعله فقيرا ويترك ورثته عالة يتكففون الناس قال الله تعالى : “وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)  [الإسراء : 26 ، 27] وكذلك كان النبى صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه عن تبذير أموالهم وإنفاق كل ما جمعوه، ولو كان ذلك في سبيل الطاعات رعاية لحق ورثتهم .

فقد روى ( أن سعد بن أبى وقاص مرض بمكة فعاده الرسول بعد ثلاث، فقال : يا رسول الله إني لا أخلف إلا بنتا أفأوصي بجميع مالي قال لا قال أفأوصي بثلثي مالى قال لا قال فبنصفه قال لا قال فبثلثه قال الثلث والثلث كثير لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ) أي يسألون الناس كفايتهم – فقد أفاد هذا الحديث احترام جمع المال كما أفاد المحافظة عليه وعدم تبذيره وعدم إنفاقه كله.

ولا يعارض هذا كله ما ذهب إليه أبو ذر الغفاري رضي الله عنه من وجوب إنفاق جميع المال الفاضل عن الحاجة عملا بظاهر قول الله تعالى :وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) [التوبة : 34] ، لأنه ليس المراد بالكنز في هذه الآية جمع المال مطلقا .

بل المراد بالكنز فيها :هو المال الذى لم يخرج منه ما وجب إخراجه كالزكاة والكفارات ونفقات الحج والأهل والعيال وغير ذلك من الحقوق والواجبات التي بينها الله سبحانه وتعالى في قوله { وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فكل شخص لم يخرج من ماله ما وجب إخراجه شرعا فهو داخل فى الوعيد. ويفسر هذا ما أخرجه الطبرانى والبيهقى في سننه وغيرهما من ابن عمر رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما أدي زكاته فليس بكنز ) أي بكنز  أوعد عليه؛ فإن الوعيد عليه مع عدم الإنفاق فيما أمر الله تعالى أن ينفق فيه.

ولعل سيدنا أبا ذر رضي الله عنه كان قد غلبت عليه في آخر أيامه نزعة الزهد في الدنيا، وعاطفة الإيثار إلى حد جعله يذهب إلى وجوب إنفاق ما فضل من المال فى سبيل الله رغبة فى الثواب الأخروي، وإن كان ذلك لا يبرر له ما رآه من بقاء الآية على ظاهرها ، فإن في ذلك تعطيلا لشرعية الزكاة والمواريث وغير ذلك من الواجبات التى ترمي إلى حفظ النظام والإبقاء على النوع الإنسانى صحيح الحياة .

ومهما يكن من قول فى مذهب أبى ذر الغفاري فإنه مذهب فردي لم يتابعه عليه أحد من المسلمين ولم يستند إلى دليل من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ؛ ولهذا كثر المعترضون على مذهبه، وكان الناس يقرؤون له آية المواريث ويقولون له : لو وجب إنفاق كل المال لم يكن للآية وجه، وكانوا يجتمعون عليه مزدحمين حيث حل مستغربين منه ذلك .فاختار العزلة واستشار خليفة المسلمين سيدنا عثمان رضي الله عنه فأشار عليه بالذهاب إلى الربدة وهي مكان قريب من المدينة فسكن فيها حتى لا يتأثر الناس بمذهبه .