أجمعت المجامع العلمية والمؤتمرات العالمية، والندوات المتخصصة، في عدد من عواصم الإسلام، أجمعت كلها على أن الفوائد هي الربا الحرام.

الفوائد البنكية التي تجمعت لمن له حساب في بنك ربوي، فشأنها شأن كل مال مكتسب من حرام، لا يجوز لمن اكتسبه أن ينتفع به، لأنه إذا انتفع به فقد أكل سحتًا، ويستوي في ذلك أن ينتفع به في الطعام والشراب أو اللباس أو المسكن، أو دفع مستحقات عليه لمسلم أو غير مسلم، عادلة أو جائرة ومن ذلك دفع الضرائب وإن كانت ظالمة للحكومات المختلفة، لأنه هو المنتفع بها لا محالة، فلا يجوز استخدامها في ذلك، وكذلك دفعها في “المحروقات” بل هذا من باب أولى، فلا يجوز للشخص الاستفادة من المال الحرام لنفسه أو لأهله، إلا أن يكون فقيرًا أو غارمًا يحق له الأخذ من الزكاة.

وأما ترك هذه الفوائد للبنوك، فلا يجوز بحال من الأحوال، لأن البنك إذا أخذها لنفسه ففي ذلك تقوية للبنك الربوي، ومعاونة له على المضي في خطته، فهذا يدخل في الإعانة على المعصية، والإعانة على الحرام حرام، كما جاء في كتاب “الحلال والحرام في الإسلام”.

ويزداد الإثم في ذلك بالنظر للبنوك الأجنبية، والتي يودع فيها كثير من أغنياء المسلمين أموالهم للأسف الشديد، فإن ترك هذه الفوائد لها فيه خطر كبير. فهذه البنوك تتبرع بهذه الأموال عادة للجمعيات الخيرية عندهم فينتفعون هم بها.

والخلاصة:
أن ترك الفوائد للبنوك وبخاصة الأجنبية حرام بيقين، وقد صدر ذلك عن أكثر من مجمع، وخصوصًا مؤتمر المصارف الإسلامية الثاني في الكويت.
أما الأمر المشروع في هذا المقام، فهو دفع هذه الفوائد ومثلها كل مال من حرام في جهات الخير، كالفقراء والمساكين، واليتامي وابن السبيل، والجهاد في سبيل الله، ونشر الدعوة إلي الإسلام، وبناء المساجد والمراكز الإسلامية، وإعداد الدعاة الواعين، وطبع الكتب الإسلامية، وغير ذلك من ألوان البر، وسبل الخير.

وقد نوقش هذا الموضوع في أحد المجامع الإسلامية، وكان لبعض العلماء تحفظ علي إعطاء هذه الفوائد للفقراء والمشروعات الخيرية، إذ كيف نطعم الفقراء الخبيث من المكاسب؟ وكيف نرضى للفقراء ونحوهم ما لا نرضاه لأنفسنا؟
والحق أن هذا المال خبيث بالنسبة لمن اكتسبه من غير حله، ولكنه طيب بالنسبة للفقراء وجهات الخير.

هو حرام عليه، حلال لتلك الجهات. فالمال لا يخبث في ذاته. إنما يخبث بالنسبة لشخص معين لسبب معين.

وهذا المال الحرام لابد أن يتصرف فيه بأحد تصرفات أربعة، لا خامس لها بحسب القسمة العقلية:
الأول: أن يأخذ هذا الحرام لنفسه أو لمن يعوله، وهذا لا يجوز، كما بيناه.
الثاني: أن يتركه للبنك الربوي، وهذا لا يجوز أيضًا، كما ذكرنا.
الثالث: أن يتخلص منه بالإتلاف والإهلاك. وهذا قد روي عن بعض المتورعين من السلف، ورد عليهم الإمام الغزالي في “الإحياء” فقد نهينا عن إضاعة المال.
الرابع: أن يصرف في مصارف الخير أي للفقراء والمساكين واليتامى وابن السبيل، وللمؤسسات الخيرية الإسلامية الدعوية والاجتماعية وهذا هو الوجه المتعين.

ونود أن نبين هنا أن هذا ليس من باب الصدقة حتى يقال: “إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا” (جزء من حديث صحيح رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة وهو من أحاديث الأربعين النووية الشهيرة). إنما هو من باب صرف المال الخبيث أو الحرام في مصرفه الوحيد. فهو هنا ليس متصدقًا، ولكنه وسيط في توصيل هذا المال لجهة الخير. ويمكن أن يقال: إنها صدقة من حائز المال الحرام عن صاحب المال ومالكه.

وقد يقول بعض الناس : إن هذه الفوائد البنكية، إنما هي ملك للمقترضين الذين اقترضوا ما يحتاجون إليه من البنك، والأصل أن ترد هذه الأموال إلى أصحابها.

والواقع أن هؤلاء المقترضين قد انقطعت صلتهم بهذه الفوائد، وفقًا للعقد الذي بينهم وبين البنك، ولهذا أصبحت معدودة في عداد المال الذي لا يعلم له مالك معين.

وقد عرض الإمام أبو حامد الغزالي لهذا النوع من المال، وهو ما يكون لمالك غير معين، وقع اليأس من الوقوف على عينه. قال: فهذا لا يمكن الرد فيه للمالك، ويوقف حتى يتضح الأمر فيه، وربما لا يمكن الرد لكثرة الملاك، كغلول الغنيمة. فهذا ينبغي أن يتصدق به. أي نيابة عن الملاك.

قال الغزالي: فإن قيل: ما دليل جواز التصدق بما هو حرام؟ وكيف يتصدق بما لا يملك؟ وقد ذهب جماعة إلى أن ذلك غير جائز، لأنه حرام، وحكي عن الفضيل أنه وقع في يده درهمان، فلما علم أنهما من غير وجههما، رماهما بين الحجارة، وقال: لا أتصدق إلا بالطيب، ولا أرضي لغيري ما لا أرضاه لنفسي!
فنقول: نعم ذلك له وجه واحتمال. وإنما اخترنا خلافه للخبر والأثر والقياس.

أما الخبر: فأمر رسول الله –صلى الله عليه وسلم– بالتصدق بالشاة المصلية التي قدمت إليه فكلمته بأنها حرام، إذ قال -صلى الله عليه وسلم- : “أطعموها الأساري. (قال الحافظ العراقي: حديث أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالتصدق بالشاة المصلية التي قدمت بين يديه وكلمته بأنها حرام، إذ قال: “أطعموها الأساري” رواه أحمد من حديث رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة، فلما رجعنا لقينا راعي امرأة من قريش فقال: “إن فلانة تدعوك ومن معك إلى طعام…” الحديث، وفيه: فقال أحد لحم الشاة أخذت بغير إذن أهلها” وفيه: فقال “أطعموها الأساري” إسناده جيد).

ولما نزل قوله تعالي: (ألم. غلبت الروم في أدني الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون) كذبه المشركون وقالوا للصحابة: ألا ترون ما يقول صاحبكم، يزعم أن الروم ستغلب، فخاطرهم أبو بكر -رضي الله عنه- بإذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما حقق الله صدقه وجاء أبو بكر -رضي الله عنه- بما قامرهم به قال عليه الصلاة والسلام: ” هذا سحت”، فتصدق به، وفرح المؤمنون بنصر الله، وكان قد نزل تحريم القمار بعد إذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له في المخاطرة مع الكفار.

(حديث: مخاطرة أبي بكر المشركين بإذنه -صلى الله عليه وسلم- لما نزل قوله تعالي: (ألم غلبت الروم) وفيه: فقال -صلى الله عليه وسلم- : “هذا سحت” فتصدق به، أخرجه البيهقي في دلائل النبوة من حديث ابن عباس، وليس فيه أن ذلك كان بإذنه -صلى الله عليه وسلم-، والحديث عند الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه دون قوله أيضًا “هذا سحت” فتصدق به).
وأما الأثر: فإن ابن مسعود -رضي الله عنه- اشترى جارية، فلم يظفر بمالكها لينقده الثمن فطلبه كثيرًا فلم يجده، فتصدق بالثمن وقال: اللهم هذا عنه إن رضي، وإلا فالأجر لي.
وسئل الحسن -رضي الله عنه- عن توبة الغال (من يأخذ من مال الغنيمة قبل أن يقسم وما يؤخذ منه بعد تفرق الجيش)، فقال: يتصدق به.
وروي أن رجلاً سولت له نفسه، فغل مائة دينار من الغنيمة، ثم أتى أميره ليردها عليه فأبى أن يقبضها، وقال له: تفرق الناس، فأتي معاوية فأبى أن يقبض، فأتى بعض النساك فقال: ادفع خمسها إلى معاوية، وتصدق مما يبقي، فبلغ معاوية قوله، فتلهف إذ لم يخطر له ذلك.
وقد ذهب أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي وجماعة من الورعين إلي ذلك.

وأما القياس:
فهو أن يقال: إن هذا المال مردد بين أن يضيع وبين أن يصرف إلي خير، إذ قد وقع اليأس من مالكه، وبالضرورة يعلم أن صرفه إلي خير أولي من إلقائه في البحر، فإنا إن رميناه في البحر فقد فوتناه على أنفسنا وعلى المالك، ولم تحصل منه فائدة، وإذا رميناه في يد فقير يدعو لمالكه حصل للمالك بركة دعائه، وحصل للفقير سد حاجته، وحصول الأجر للمالك بغير اختياره في التصدق لا ينبغي أن ينكر. فإن في الخبر
الصحيح: “أن للزارع والغارس أجرًا في كل ما يصيبه الناس والطيور من ثماره وزرعه”.

(حديث “أجر الزارع والغارس في كل ما يصيب الناس والطيور” أخرجه البخاري من حديث أنس: “وما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له صدقة”).

وأما قول القائل: لا نتصدق إلا بالطيب، فذلك إذا طلبنا الأجر لأنفسنا، ونحن الآن نطلب الخلاص من المظلمة لا الأجر، وترددنا بين التضييع وبين التصدق، ورجحنا جانب التصدق على جانب التضييع.

وقول القائل: لا نرضي لغيرنا ما لا نرضاه لنفسنا، فهو كذلك، ولكنه علينا حرام؛ لاستغنائنا عنه، وللفقير حلال إذ أحله دليل الشرع، وإذا اقتضت المصلحة التحليل وجب التحليل، وإذا حل فقد رضينا له الحلال.
ونقول: إن له أن يتصدق على نفسه وعياله إذا كان فقيرًا. أما عياله وأهله فلا يخفي، لأن الفقر لا ينتفي عنهم بكونهم من عياله وأهله، بل هم أولي من يتصدق عليهم.

وأما هو فله أن يأخذ منه قدر حاجته، لأنه أيضًا فقير، ولو تصدق به على فقير لجاز، وكذا إذا كان هو الفقير (إحياء علوم الدين 29 / 119، 120 . ا.هـ).

وهنا قد يسأل سائل: وهل يثاب من أخذ الفوائد من البنك الربوي وصرفها في مصرفها الخيري؟
والجواب: أنه لا يثاب ثواب الصدقة، ولكنه يثاب من ناحيتين أخريين:
الأولى: أنه تعفف عن هذا المال الحرام ومن الانتفاع به لنفسه بأي وجه، وهذا له ثوابه عند الله تعالي.
الثانية: أنه كان وسيط خير في إيصال هذا المال إلي الفقراء والجمعيات الإسلامية التي تستفيد منه. وهو مثاب علي هذا إن شاء الله.