الذي حدا بالفقهاء إلى الكلام عن الفسيخ والاختلاف في حكمه، هو طريقة إعداده، حيث إن طريقة عمل الفسيخ  تتلخص في أن السمك يملح ويوضع بعضه فوق بعضه، ومن ثقل الضغط يخرج من طبقات السمك المتتالية إفرازات ورطوبات تختلط بالسمك نفسه ويتشرب بها، فنظر الفقهاء إلى هذه الإفرازات، هل هي دم أم لا ؟ وإذا كانت دما فهل هي في حكم الدم المسفوح المجمع على تحريمه أم ليست من الدم المسفوح؟

ولذلك فإن المذاهب الأربعة ذهبت إلى طهارة الصغير من الفسيخ، لأنه معفو عما في بطنه لعسر تنقيته مما فيه .

وأما الكبير، فقد اختلفوا فيه على قولين:

الأول: أنه طاهر، وبهذا قال الحنفية والحنابلة وابن العربي والدردير من المالكية .

الثاني : أنه نجس، وبه قال الشافعية وجمهور المالكية .

فأما من ذهب إلى طهارة الفسيخ وجواز أكله فقد ذهب إلى ذلك للآتي :-

أن الإفرازات التي تخرج من السمك ليست دما أصلا، فالسمك ليس له دم، وإنما هي رطوبات طاهرة ( قال ذلك الأحناف).

أن هذه الإفرازات دم، ولكنه دم غير مسفوح، يقول العلامة الدردير المالكي :

” الذي أدين الله به أن الفسيخ طاهر، لأنه لا يملح ولا يرضخ إلا بعد الموت، والدم المسفوح لا يحكم بنجاسته إلا بعد خروجه، وبعد موت السمك إن وجد فيه دم يكون كالباقي في العروق بعد الذكاة الشرعية، فالرطوبات الخارجة من بعد ذلك طاهرة لا شك في ذلك.

أن هذه الإفرازات دم، ولكن دم السمك طاهر جائز أكله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ماء البحر : ” هو الطهور ماؤه الحل ميتته) قال بذلك الحنابلة.

قال الإمام ابن مفلح من الحنابلة: ودم السمك طاهر – في الأصح – ويؤكل.

وقال البهوتي من الحنابلة: ودم السمك طاهر مأكول كميتته.

وفي فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية :

يجوز أكل الفسيخ والسردين ونحوهما من حيوانات البحر ، ولو كان ميتة وتراكم بعضه على بعض وسرى ما يسيل من بعضه إلى بعض ؛ لما ثبت أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سئل عن ماء البحر فقال : هو الطهور ماؤه الحل ميتته.

وأما من ذهب إلى حرمة تناول الفسيخ ؛ فلأنه اعتبر أن الدم الذي يسيل من السمك دما مسفوحا، وأن الطبقات التي تتشرب به تكون قد تشربت دما نجسا ، لا سبيل إلى التطهير منه لامتزاج الدم بالسمك امتزاجا لا ينفك أبدا.

فقد سئل الإمام محمد بن عليش – وهو مالكي -: ما قولكم في حكم أكل الفسيخ المعروف بمصر؟ فأجاب بما نصه… حكمه الحرمة لنجاسته بشربه من الدم المسفوح الذي يسيل منه حال وضع بعضه على بعض.

قال في المجموع: ودم مسفوح، وإن من سمك، فما شربه من الملح بعد انفصاله نجس، والله أعلم. انتهى.

وفي حاشية البجيرمي على المنهج في فقه الشافعية ما نصه: قال في الجواهر: كل سمك مملح ولم ينزع ما في جوفه فهو نجس. وبه يعلم حرمة الفسيخ المعروف، خلافاً لما اشتهر على الألسنة.

وواضح أن أدلة من قالوا بطهارة ما يخرج من السمك بعد تمليحه أقوى من أدلة من قالو بنجاسته؛ يقول الإمام البهوتي من الحنابلة في تعليل طهارة دم السمك : “لأنه لو كان نجسا لتوقفت إباحته على إراقته بالذبح , كحيوان البر , ولأنه يستحيل ماء ” انتهى.

وتبقى كلمة الطب هي الفاصلة، فإن قال الأطباء الثقات : إنه ضار يكون أكله محظورا شرعا لضرره بالصحة , وإلا فلا . إلا أن الورع ترك أكله على كل حال لوجود هذا الخلاف القوي في المسألة.

يقول الشيخ السيد سابق في فقه السنة :

كثيراً ما يخلط السمك بالملح ليبقى مدة طويلة بعيداً عن الفساد، ويتخذ من أصنافه المختلفة: السردين، والفسيخ، والرنجة، والملوحة، وكل هذه طاهرة، ويحل أكلها ما لم يكن فيه ضرر، فإنه يحرم لضرره بالصحة حينئذ… انتهى.