إكرام الضيف خلق من الأخلاق الحميدة التي تَوَارَثَها العرب واشْتَهَروا بها، وضُرب المثل بكثير منهم في هذا المجال في الجاهلية كحاتم الطائي وهرم بن سنان وكعب بن مامة “العقد الفريد ج1 ص 76″، وفي الإسلام أيضًا، وعلى رأسهم سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي كان يُعطي عطاءَ مَن لا يَخشى الفقر.

وقد أكَّد هذا المعنى الأصيل، وجعله سمة بارزة من سمات المؤمنين، فقال فيما رواه البخاري ومسلم “مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ”، والعَلاقة بين الإيمان وإكرام الضيف تظهر في الإحساس بأن الضيف عبْد من عِباد الله لا يجوز أن يُحْرَم مِن خَير هو مِن فضل الله سبحانه، وأنه في الوقت نفسه أخ في الدِّين والإنسانية، والأخوَّة يَجب عليهم أن يتحابُّوا ويتعاونوا، والزَّمان قُلَّب قد يُوضع الإنسان يومًا من الأيام في موضع هذا الضيف فيَحتاج إلى من يُقْرِيه ويُقدم له ما ينبغي أن يقدَّم، وبخاصة إذا كان من بلد بعيد وانقطع به السبيل، والحديث المتفق عليه يقول “لا يؤمن أحدُكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه”.

لقد نظَّم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ واجب الضيافة فجعله في أولِ يوم مفروضًا لازمًا، ولثلاثةٍ تطوُّعًا مؤكدًا وبعد ذلك أمرًا عاديًّا يُترك للحرية والاختيار. روى البخاري ومسلم أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلْيُكْرم ضيفه. جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان بعد ذلك فهو صدقة، ولا يَحِل له أن يَثْوَي عنده حتى يُحْرجه”.

والجملة الأخيرة لها أهمَّيتها في تنظيم الضيافة، فالإسلام إذا أوجب على الإنسان أن يُكرم ضَيفه فلا يجوز للضيف أن يُسيء استغلال هذا الحقِّ له عند من أُمِر بحسن استقباله، كأن يَمكُث مدة طويلة يُثْقِلُ بها على صاحبه، ويُرهقه من أمره عسرًا، فربما لا يكون عنده من السعة ما يؤدِّى به الواجب، اللهم إلا إذا طلب هو ذلك بنفسه لمعنى من المعاني كقرابة أو صداقة أو نحوهما، ذكر ذلك الخطَّابي في تعليقه على هذا الحديث، فقال عن رحيل الضيف بعد ثلاثة أيام: حتَّى لا يُضَيِّق صدرَه ويُبْطِل أجرَه.

وبعض العلماء فسَّر ذلك بأن اليوم والليلة يكون إذا مرَّ به وسأله فلْيُعْطه كفايتَه لهذا اليوم وليلته، أما إذا قصده ليَنزل عنده فلْيكن ذلك في حدود ثلاثة أيام. ولشدَّة التأكيد على حق الضيف الغريب أباح الإسلام له أن يَأْخُذَ ما يحتاج إليه إن حُرِم منه، ودليل ذلك ما رواه أحمد برجال ثقات والحاكم وصحَّحه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ” أيُّما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محرومًا فله أن يأخذ بقدْر قِرَاه ولا حَرَجَ عليه”، والقِرى اسم لما يُقَدَّم للضيف، وجاء مثل هذا الحديث عند أبي داود وابن ماجة ” ليلة الضَّيف حقٌّ على كل مسلم. فمَن أصبح بفنائه – أي داره – فهو عليه دَيْنٌ، إنْ شاء قضى وإنْ شاء ترك”.

ذلك هو موقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الضيف نظريًّا أو قولاً، ومن الناحية التطبيقية وردت عدة حوادث تدل على أهمِّيَّة هذا الحقِّ، فروى مسلم أنَّ رجلاً جاء إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُتعبًا، فأرسل إلى بعض نسائه يُريد شيئًا يقدِّمه إليه، فقالت: لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخْرى فقالت مثل ما قالت الأولى، حتى قال كل نسائه مثل ذلك، فماذا فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ قال لأصحابه: من يُضيِّف هذا الليلة رحمه الله، فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى رحله أي بيته، فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا ما عندي إلا قوت صِبْياني. قال فعلِّلِيهِم بشيء، فإذا أرادوا العَشاء فنوِّميهم، فإذا دخل ضيفُنا فأطفئِي السِّراج – وأَرِيه أنَّا نأْكل، فَقَعَدَا وأكَل الضيف، وبات الرجل وزوجته طاوِيَيْن – أي جائعين – فلمَّا أصبح ذهب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخْبره أن الله قد عَجِبَ من صنيعهما بضيْفهما، وفي ذلك قوله تعالى (ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (سورة الحشر :9) هذه حادثة وحادثة أخرى، رواه أحمد بسند صحيح، أنَّ وفْد عبد القيس قَدِمُوا عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم فَرِحُون بلقائه، فاستقبلَهم أصحابه خَيْرَ استِقْبَال، ورَحَّب بهم ودَعا لُهم، ثم سألهم عن زَعِيمهم الأشجِّ المُنْذر بن عائذ، وأجلسه عن يمينه وسأله عن بلادهم، ثم التَفَتَ إلى الأنصار، وقال لهم” أكْرموا إخْوانَكم، فإنَّهم أشْباهُكُم في الإسلام، أسْلِموا طَائعين غيْر مُكْرَهين ولا مَوُتُورِين” فَقَام الأنْصار بواجِبِهم نحوهم، فلما أصبحوا أراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يَطْمئن على ضيوفه فقال لهم ” كيف رأيتم كرامة إخوانكم لكم وضِيافتَهم إياكم: فقالوا خيرًا، ألانُوا فَرْشَنَا وأَطَابوا مَطْعَمَنَا وبَاتوا وأصبحوا يُعلِّموننا كتاب الله تبارك وتعالى. فأعجب النبي بذلك وفَرِح” الترغيب والترهيب ج3 ص153″.