يمكن أن يولد الطفل سليما بعد ستة أشهر من الحمل به ويعيش ، وقد حدث هذا سالفا ، حيث ولد عبد الملك بن مروان لستة أشهر كما ذكر الإمام القرطبي ، ويحدث أيضا في عصرنا ، ولكن يحتاج الطفل إلى “حضانة” ، وإذا ولد بعد ستة أشهر من الدخول بأمه ثبت نسبه من زوجها الذي دخل بها ، ويكون هذا الطفل ابنا أو بنتا لهذا الزوج ، بخلاف ما إذا تزوج رجل امرأة فولدت قبل الستة أشهر هلالية فلا يثبت نسبه منه ، إلا أن المالكية قالوا : لو نقصت الستة أشهر ثلاثة أيام ثبت نسبه ، لاحتمال أن تكون الشهور ناقصة .

وهذه المدة ـ الستة أشهر ـ قد فهمها الإمام علي رضي الله عنه ـ كما ذكرت ـ من قوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) الأحقاف: 15، حيث تفيد هذه الآية أن الحمل والرضاع ثلاثون شهرا، مع قوله تعالى : (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ)البقرة: 233 ، وقوله تعالى : (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) لقمان: 14، حيث تفيد هاتان الآيتان أن مدة الرضاع سنتان ـ أربعة وعشرون شهراـ فلا يبقى للحمل إلا ستة أشهر .

يقول الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى : (اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ) لقمان : 8 .9 ، يقول : في هذه الآية دليل على أن الحامل قد تضع حملها لأقل من تسعة أشهر ولأكثر، وأجمع العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر، وأن عبدالملك، بن مروان ولد لستة أشهر. وهذه الستة الأشهر هي بالأهلة كسائر أشهر الشريعة؛ ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك، وأظنه في كتاب ابن حارث أنه إن نقص عن الأشهر الستة ثلاثة أيام فإن الولد يلحق لعلة نقص الأشهر وزيادتها .

ثم يقول : وقد استنبط علي رضي الله عنه مدة أقل الحمل – وهو ستة أشهر – من قوله تعالى: “وحمله وفصاله ثلاثون شهرا “[الأحقاف:15] وقوله تعالى: “والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين” [البقرة: 233] فإذا فصلنا الحولين من ثلاثين شهرا بقيت ستة أشهر(انتهى) .

ويقول الإمام ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ( وَحَمْله وَفِصَاله ثَلَاثُونَ شَهْرًا ) :
وَقَدْ اِسْتَدَلَّ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ بِهَذِهِ الآيَة مَعَ الَّتِي فِي لُقْمَان ” وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ” وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى في البقرة :” وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمّ الرَّضَاعَة” عَلَى أَنَّ أَقَلَّ مُدَّة الْحَمْل سِتَّة أَشْهُر وَهُوَ اِسْتِنْبَاطٌ قَوِيٌّ صَحِيح وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ عُثْمَان وَجَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة .

وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا فَرْوَة بْن أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن مُسْهِر عَنْ دَاوُد بْن أَبِي هِنْد عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ : إِذَا وَضَعَتْ الْمَرْأَة لِتِسْعَةِ أَشْهُر كَفَاهُ مِنْ الرَّضَاع أَحَد وَعِشْرُونَ شَهْرًا وَإِذَا وَضَعَتْهُ لِسَبْعَةِ أَشْهُر كَفَاهُ مِنْ الرَّضَاع ثَلَاثَة وَعِشْرُونَ شَهْرًا وَإِذَا وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُر فَحَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ (انتهى ).

وروى الإمام المتقي الهندي في كتابه: كنز العمال :
عن قتادة عن أبي حرب بن الأسود الدؤلي عن أبيه، قال: رفع إلى عمر امرأة ولدت لستة أشهر فأراد عمر أن يرجمها فجاءت أختها إلى علي بن أبي طالب فقالت: إن عمر يرجم أختي فأنشدك الله إن كنت تعلم أن لها عذرا لما أخبرتني به فقال علي: إن لها عذرا فكبرت تكبيرة سمعها عمر ومن عنده، فانطلقت إلى عمر فقالت: إن عليا زعم أن لأختي عذرا، فأرسل عمر إلى علي : ما عذرها؟ قال: إن الله عز وجل يقول: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين)، وقال: (حمله وفصاله ثلاثون شهرا) فالحمل ستة أشهر والفصل أربعة وعشرون شهرا فخلى عمر سبيلها، قال: ثم إنها ولدت بعد ذلك لستة أشهر .
والله تعالى أعلم.