معنى “الحكم” و”الحاكم” و”الحكيم” في اللغة:

الحَكَم والحَكِيم بمعنى الحَاكم، وهو القَاضي، أو هو الذي يُحْكم الأشْياء ويُتْقنها.

وقيل: الحَكم ذُو الحِكمة، والحِكمة عبارةٌ عنْ مَعْرفة أفضلِ الأشْياء بأفضلِ العلوم، ويُقال لمن يُحسن دَقَائق الصّناعات ويتقنها: حَكيمٌ، والحَكيم يجوز أنْ يكونَ بمعنى الحَاكم؛ مثل قدير؛ بمعنى قادر.

قال الزجَّاج:” والحَكَم والحاكم بمعنى واحد، وأصْل: (ح ك م) في الكلام: المَنْع، وسُمي الحَاكم حَاكماً، لأنّه يَمْنع الخَصمين مِنَ التَّظالم، وحَكَمَة الدّابة سُميت حَكَمة؛ لأنها تمنعها مِنَ الجِمَاح” اهـ. والحُكْم: العلمُ والفَقْه؛ والقَضَاء بالعَدْل، والحَكيم: العالم؛ وصاحب الحكمة.

إسم الله “الحكم” و”الحاكم” و”الحكيم” في القرآن الكريم:

ورد اسْمه” الحَكَم” في آيةٍ واحدة، هي قوله تعالى: (أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً) (الأنعام: 114).

وورد اسمه” الحاكم” بصيغة الجمع في خمس آيات؛ منها:

قوله تعالى: (فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) (الأعراف:87).

وقوله: (رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (هود: 45).

وقوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) (التين: 8).

وأما الاسْم“الحكيم”: فقد ورد أربعاً وتسعين مرة؛ منها:

قوله جل ذكره: (وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ) (البقرة: 228، 240).

وقوله: (وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (النساء: 26).

وقوله: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (الأنعام: 18، 73).

وقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (النور:10).

وقوله: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الشورى: 51).

وقوله: (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً) (النساء: 130).

معنى “الحكم” و”الحاكم” و”الحكيم” في حق الله تبارك وتعالى:

قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: (أفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً) (الأنعام: 114): قل فليس لي أنْ أتعدّى حُكْمه وأتجاوزه، لأنه لا حَكَم أعْدل منه، ولا قائل أصْدق منه.

وقال الخطابي: الحَكَم الحَاكم؛ ومنه المَثَل:” في بيته يُؤتى الحَكَمُ” وحقيقته: هو الذي سَلمَ له الحُكم، ورُدَّ إليه فيه الأمر، كقوله تعالى: (لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص: 88). وقوله: (أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (الزمر: 46).

قال ابن كثير: وقوله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) (التين: 8) أي: أما هو أحْكمُ الحاكمين؛ الذي لا يَجُور؛ ولا يَظْلم أحداً.

وقال الحليمي: معنى” الحَكم”: وهو الذي إليه الحُكم، وأصل الحُكْم منع الفساد، وشرائع الله تعالى كلّها اسْتصلاح العباد.

• أيهما أبلغ الحَكَم أو الحاكم: قيل: إنّ الحَكَم أبْلغ من الحَاكم، إذْ لا يَسْتحق التَّسمية بحَكَم؛ إلا مَنْ يَحْكم بالحقّ، لأنها صفةُ تعظيمٍ في مَدْحٍ، والحَاكم جارية على الفِعل، فقد يُسمّى بها مَنْ يَحكم بغير الحقّ اهـ.

وقال الراغب الأصفهاني رحمه الله:” ويقال حاكمٌ وحُكّام لمن يَحْكم بين الناس، قال الله تعالى: (وتُدلوا بها إلى الحكامِ) (البقرة: 188) و”الحَكَم” المُتَخصص بذلك فهو أبلغ. قال الله تعالى: (أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً) (الأنعام: 114). وقال عز وجل: (ابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا) (النساء: 35) اهـ. وقد ورد في الحديث الصحيح؛ ما يفيد كراهة التكنّي بالحكم.

* وأما عن معنى”الحكيم”: فقد قال الزجاج:”الحكيم من الرجال يجوز أنْ يكون فعيلاً في معنى فاعل، ويجوز أنْ يكون في معنى مُفعل، والله حاكم وحكيم. والأشبه أن تَحمل كلَّ واحدٍ منهما على معنى غير معنى الآخر، ليكونَ أكثرَ فائدة، فحكيمٌ بمعنى مُحكمٌ؛ واللهُ تعالى مُحكم للأشياء، متقنٌ لها؛ كما قال تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل:88)” اهـ.

وقال ابن جرير:”الحَكيم” الذي لا يَدْخل تدبيره خللٌ ولا زَلَل. وقال في موضع: حَكيمٌ فيما قضى بين عباده من قضاياه.

قال ابن كثير: الحَكيم في أفْعاله وأقواله، فيَضع الأشْياءَ في محالِّها؛ بحَكمته وعَدْله.

وقال الحليمي:” الحكيم” ومعناه: الذي لا يقولُ ولا يفعل إلا الصَّواب، وإنما ينبغي أنْ يُوصف بذلك؛ لأنَّ أفْعاله سَديدة، وصُنْعه مُتقن، ولا يَظهرُ الفِعْلُ المتقن السَّديد؛ إلا مِنْ حَكيم، كما لا يَظْهر الفِعل على وجْه الاخْتبار؛ إلا مِنْ حيٍّ عالمٍ قدير.

من آثار الإيمان باسم الله “الحكم” و”الحاكم” و”الحكيم”:

1- أنَّ الحُكم لله وحْده لا شريكَ له في حُكمه، كما لا شريكَ له في عبادته، قال تعالى: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (الكهف: 26)؛ وقال: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف: 110). وقال سبحانه: (إن الحُكْم إلا لله) (الأنعام:57)، وفي (يوسف: 40، 67). وقال جل شأنه: (لهُ الحكمُ وإليه ترجعون) (القصص: 70، 88).

وقال: (أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) (الأنعام: 62). وقال: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) (الشورى: 10). وقال ابنُ الحَصَّار: وقد تضمَّن هذا الاسْم – يعني الحُكم – جميع الصّفات العُلى؛ والأسْماء الحُسنى، إذْ لا يَكون حَكماً؛ إلا سميعاً بصيراً؛ عالماً خبيراً إلى غير ذلك، فهو سبحانه الحَكَم بين العباد في الدنيا والآخرة في الظاهر والباطن، وفيما شَرَع مِنْ شَرَعه، وحكم من حكمه؛ وقضاياه على خَلْقه قولاً وفعلاً، وليس ذلك لغير الله تعالى، ولذلك قال وقوله الحقّ: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص: 70).

وقال: (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود :1) فلم يزل حكيماً قبل أنْ يَحْكم، ولا يَنْبغي ذلك لغيره. قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله: ” وبذلك تعلم أنّ الحلالَ هو ما أحلّه الله، والحَرامَ هو ما حَرَّمه الله، والدِّين هو ما شَرَعه الله، فكلُّ تشريعٍ من غيره باطلٌ، والعمل به بدل تشريعِ الله؛ عند مَنْ يَعتقد أنه مثلُه؛ أو خيرٌ منه، كفرٌ بَوَاحٌ؛ لا نزاعَ فيه” اهـ. ثم بيّنَ رحمه الله أنّ الله سُبحانه بصفاته العظيمة؛ يَسْتحقّ أنْ يكونَ له الحُكم، فهل يُوجد في البشر؛ مَنْ له مثل صفاتِ خَالقه؟! ليُشارك ربّه في الحُكم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

2- الله سبحانه يَحْكمُ ما يُريد، وما يَشاء هو وحْده؛ لا شريكَ له، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) (المائدة: 1). فالله سُبْحانه يقضي في خَلْقه ما يشاء؛ مِن تَحْليلِ ما أراد تَحليله، وتحْريمِ ما أرادَ اللهُ تحريمه، وإيجابِ ما شاءَ إيجابه عليهم، وغير ذلك مِنْ أحْكامه؛ وقضاياه؛ وله الحِكْمة البالغة في ذلك كلّه. وليس لأحدٍ أنْ يُراجعَ الله عزّ وجل في حُكْمه، كما يُراجع الناسُ بعضُهم البعض في أحْكامهم، قال تعالى: (واللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (الرعد:41)، فحُكمه في الخَلْق نَافذٌ، ليس لأحدٍ أنْ يَردّه أو يُبْطله.

3- كلامُ اللهِ حَكيمٌ ومُحْكم، وكيف لا يكون بهذه الصفة؛ وهو كلامُ أحْكم الحَاكمين؛ وربّ العالمين. وقد وَصَفَ اللهُ القُرآن العظيم – وهو كلامه المنزّل على محمد صلى الله عليه وسلم – بأنه حكيمٌ ومحكم؛ في ثمانِ آيات من كتابه؛ منها: قوله تعالى: (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود:1). وقوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) (لقمان: 2). وقوله: (يس * والقرآن الحكيم) (يس: 1-2). وقوله: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ..) (محمد: 20). وحِكْمة الله تَقْتَضي ذلك، تَقْتضي أنْ يكون القُرآن حَكيماً ومُحْكماً، لأنه الكتاب الذي ليس بعده كتابٌ، ولأنّه الكتاب الذي أنزله اللهُ ليكونَ تَشريعاً عاماً؛ لكلّ مجتمعٍ بشري؛ ولكلّ فردٍ من أفراده، حتى يرثَ اللهُ الأرض ومَنْ عليها. فالقرآن حكيمٌ في أسْلوبه الرائع الأخَّاذ، وحكيمٌ في هدايته ورحمته، وحكيمٌ في إيْضاحه وبيانه، وحكيمٌ في تشريعاته؛ وحكيمٌ في كلّ أحْكامه، وحكيمٌ في أمْره ونهيه، وحَكيمٌ في تَرْغيبه وترهيبه، وحكيم في وَعْده ووعيده، وحكيمٌ في أقاصيصه وأخْباره، وحكيمٌ في أقْسَامه وأمثاله، وحكيمٌ في كل ما اشْتَمل عليه، بل هو فوق ذلك؛ وأعظم مِنْ ذلك. والقرآن أيضاً مُحْكم فلا حَشْوَ فيه، ولا نقصَ ولا عَيْبَ؛ كما يكون في كلامِ البَشَر، فالله أكبر ما أعظم هذا القرآن، لقد بلغَ الغايةَ في البَهاء؛ والجَمَال والكَمَال.

4- والإيمانُ بما سبق؛ يقتضي تَحْكيم كتابِ الله جلَّ شأنه بيننا، لأنه لا يُوجد كتابٌ مثلَ القرآن؛ حكيماً مُحْكماً في كلِّ شيء. لأنّ ما شَرَعه اللهُ سبحانه لعباده؛ من الأحْكام والمُعاملات؛ والقِصَاص والحُدود؛ وتقسيم المواريث؛ وما يتعلّق بشئُون الأسْرة (الأحْوال الشَّخصية) في القرآن الكريم، هي في مُنْتهى الحِكَمة والمصْلحة، لأنّها تشريعُ الحَكيمِ العَليمِ سبحانه، الذي لا يدخلُ حُكمه خَلَلٌ ولا زَلل، ولأنَّها قضاءُ مَنْ لا يَخْفى عليه مواضع الصلاح والصواب؛ في البدء والعاقبة؛ والدنيا والآخرة.

وقد نبّه الله سبحانه عباده لهذا بقوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50)؛ وقوله: (ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الممتحنة: 10). وقوله: (أليسَ اللهُ بأحكمِ الحاكمينْ) (التين: 8). ولذا فإنك تجدُ آياتِ الأحْكام؛ كثيراً ما تشتمل خواتيمها على اسْمِه”الحكيم”، ومن الأمثلة على ذلك: قوله: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)؛ إلى قوله: (فرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً) (النساء: 11).

وقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ)؛ إلى قوله: (إنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء: 24).

وقوله في القَتْل الخَطأ: (ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً) إلى قوله: (وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيما) (النساء: 92). وقوله: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (التحريم: 2). وغيرها من الآيات.

5- وقد أمرَ اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم؛ بأنْ يَحْكمَ بين الناس بما أُنزل إليه؛ من الأحْكام الربّانية، وأنْ يترك ما سِواها من الآرَاء والأهْواء، قال تعالى: (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ) (المائدة: 48). وقال تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ) (المائدة: 49). ولم يكنْ هذا الأمر لمُحمد صلى الله عليه وسلم خاصة، بل أُمِرت به جميعُ الرسل مِنْ قبله، يُبين هذا قوله تعالى: (كانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) (البقرة: 213). وقوله: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ) (المائدة: 44).

والمُؤمنون يَرْضَون بحُكْم الله، قال سبحانه: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) (النور: 51). أما مَنْ لم يَرْضَ بذلك؟! وتركَ تشريع الحَكيم العَليم؟! وأخَذ بآرائه وما يُمْليه عليه عقلٌه مِنْ أفكار؟! أو اتبعَ أهْواءَه وما تَشْتَهيه نفسُه، فقد وَقَعَ في هَاوية الكُفْر أو الظلم أو الفِسْق؛ التي حَكَم الله بها عليه؛ كما قال سُبحانه: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44). وقال: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: 45). وقال: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة: 47).

6- الله سبحانه يؤتي حِكْمتَه مَنْ يَشَاء: كما قال عنْ نفسه جلَّ ثاؤه: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (البقرة: 269). وقد تَنوَّعت عباراتُ المُفَسرين في تأويل قوله تعالى: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ) فمِنْهم مَنْ قال: هي الإصَابة في القَوْل والفعل. وقيل: هي الفِقْه في القُرآن، والفَهْم فيه.

وقال بعضهم: هي الفهم والعقل في الدِّين، والإتِّباع له. وقال آخرون: هي النُّبوة. وقيل: هي الخَشْية لله. قال ابن جرير جامعاً بين الأقوال السابقة:” وقد بيّنا فيما مَضَى معنى الحِكْمة، وأنَّها مأخوذةٌ من الحُكْم؛ وفَصْلِ القَضاء، وأنّها الإصَابةُ بما دلَّ على صِحَّته، فأغنى عنْ تكريره في هذا الموضع.

فإذا كانَ ذلك كذلك معْناه، كان جميعُ الأقوال التي قالها القائلون؛ الذين ذكرنا قولهم في ذلك، داخلاً فيما قُلْنا مِنْ ذلك، لأنَّ الإصَابة في الأُمور، إنما تكونُ عن فهمٍ بها؛ وعلمٍ ومعرفة، وإذا كان ذلك كذلك، كان المُصَيب عنْ فهمٍ منه بمواضع الصَّواب في أُموره، فهو خاشياً لله فقيهاً عالماً، وكانت النَّبوة مِنْ أقْسامه؛ لأنَّ الأنْبياء مُسَدّدون مُفْهمون؛ ومُوفقون لإصَابة الصَّواب في الأمُوُر، والنُّبوة بعضُ معَاني الحِكْمة. فتأويل الكلام: يُؤتي اللهُ إصَابة الصَّواب؛ في القَوْل والفَعل مَنْ يشاء، ومَنْ يؤته اللهُ ذلك؛ فقد آتاهُ خيراً كثيراً” اهـ.

7- وقد جاء في الحديث؛ ما يدلُّ على أنه مَنْ أُوتي الحِكمة، يَنْبغي أنْ يُغبط، لعظمِ هذه النِّعمة عليه؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم:” لا حَسَدَ إلا في اثْنَتين: رجلٌ آتاهُ اللهُ مالاً فَسَلّطه على هَلَكتِهِ في الحَقِّ، وآخرٌ آتاهُ اللهُ حِكْمةً؛ فهو يَقْضِي بها ويُعَلّمها” . وقد ذكرَ اللهُ في كتابه بعضَ الذين آتاهم الحِكْمة مِنْ خَلْقه، وأكثرهم مِنَ الأنْبياء. فامتنّ على نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم بذلك؛ كما في قوله: (وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (النساء: 113). وعلى آل إبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً) (النساء: 54). وعلى عيسى عليه السلام: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) (المائدة: 110). وعلى داود عليه السلام: (وقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) (البقرة: 251). وعلى لقمان العبد الصالح: (ولقد آتينا لقمانَ الحكمةَ) (لقمان: 12). والله سبحانه أعلم حيثُ يَجعلُ حِكْمتَه ورسالته.

8- خَلْقُ الله سبحانه؛ مُحْكمٌ لا خَلَل فيه ولا قُصُور؛ ولا نقصَ ولا عيبَ؛ قال تعالى: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل: 88). وقال: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ) (الملك: 3). أي: خَلَقَهنَّ طبقةً بعد طبقة، مستويات ليس فيها تفاوت واختلافٌ وتنافر؛ ولهذا قال تعالى: (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ) أي: انْظُر إلى السّماء فتأمَّلها؛ هل تَرَى فيها عَيْباً أو نقصاً أو خللاً، أو فطوراً وشقوقاً. ثم قال تعالى: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ) أي: مهْما كرَّرتَ البَصَر مرتين أو أكثر، لرجعَ البصرُ إليك خَاسِئاً عن أنْ يَرَى عَيْباً أو خَلَلاً، (وَهُوَ حَسِيرٌ) أي: كَلِيل، قد انْقطع مِنَ الإعْياء؛ مِنْ كثرة التَّكرر، ولا يرى نقصاً.

9- إنّ الله سُبحانه خَلَق الخَلْق لحِكمةٍ عظيمةٍ، وغايةٍ جليلة، وهي عبادتُه تبارك وتعالى؛ حيثُ قال: (مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات: 57 – 58). ولم يخلقهم عبثاً وباطلاً؛ كما يظنُّ الكفّار والمَلاحدة، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) (ص: 27).

وقال سبحانه: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى) (الأحقاف: 3).

وقال عز من قائل: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (المؤمنون: 115 – 116). وجعلَ يومَ القِيَامة مَوْعداً لهم، يُرجعون إليه، ليجْزي الذينَ أسَاءُوا بما عَمِلوا، ويجزي الذين أحْسَنُوا بالحُسنى.

10- كراهة التَّكنّي بأبي الحَكَم: فقد وردَ في الحديث الصحيح؛ ما يُفيدُ ذلك: فعنْ هَاني بن يزيد رضي الله عنه: أنه لما وَفَدَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قَوْمه، سَمِعهم يُكْنُونه: بأبِي الحَكم، فدَعَاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال:”إنَّ اللهَ هُو الحَكَم، وإليه الحُكْم، فلم تُكْنى أبا الحَكم” فقال: إنَّ قومي إذا اخْتَلَفُوا في شيءٍ أتَوني؛ فحَكمْتُ بينهم، فرضيَ كلا الفَرِيقين.

فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:”ما أحْسَنَ هذا. فمالكَ مِنَ الوَلد؟” قال: لي شُريحٌ ومسلم وعبد الله. قال:” فمَنْ أكبرُهُم؟”. قلتُ: شُريح. قال:” فأنتَ أبُو شُريح”. فتغيير النبيّ صلى الله عليه وسلم لكُنْية الصّحابي، دليلٌ على كراهته التَّكنّي بهذا الاسْم، أو التَّسَمِّي به. قال ابنُ الأثير: وإنّما كُرِهَ له ذلك، لئلا يُشَارك اللهَ تعالى في صِفَتِه.

من كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للدكتور محمد بن حمد الحمود النجدي.