ظهر هذا النبات المعروف الذي يطلق عليه اسم ” الدخان ” أو (التبغ) أو (التمباك) أو (التتن)، في آخر القرن العاشر الهجري، وبدأ استعماله يشيع بين الناس، مما أوجب على علماء ذلك العصر أن يتكلموا في بيان حكمه الشرعي.
ونظرًا لحداثته وعدم وجود حكم سابق فيه للفقهاء المجتهدين، ولا من بعدهم من أهل التخريج والترجيح في المذاهب، وعدم تصورهم لحقيقته ونتائجه تصورًا كاملا، مبنيًا على دراسة علمية صحيحة، اختلفوا فيه اختلافًا بينًا.
فمنهم من ذهب إلى حرمته.
ومنهم من أفتى بكراهته.
ومنهم من قال بإباحته.
ومنهم من لم يطلق حكمًا بل ذهب إلى التفصيل.
ومنهم من توقف فيه وسكت عن البحث عنه. (انظر: مطالب أولى النهي شرح غاية المنتهى في فقه الحنابلة ج 6 ص 218).
وكل أهل مذهب من المذاهب الأربعة فيهم من حرمه، وفيهم من كرهه، وفيهم من أباحه.
ولهذا لا نستطيع أن ننسب إلى مذهب القول بإباحة أو تحريم أو كراهة.

أدلة القائلين بتحريم التدخين :

أما المحرمون فاستندوا إلى عدة اعتبارات شرعية يجمع شتاتها ما يلي : 1- الإسكار :
فمنهم من قال إنه مسكر، وكل مسكر حرام، والمراد بالمسكر في قولهم: مطلق المغطي للعقل، وإن لم يكن معه الشدة المطربة . قالوا: ولا ريب أنها حاصلة لمن يتعاطاه أول مرة.
وبعضهم قال: معلوم أن كل من شرب دخانًا كائنًا ما كان أسكره، بمعنى أشرقه، وأذهب عقله بتضييق أنفاسه ومسامه عليه، فالإسكار من هذه الحيثية لا سكر اللذة والطرب. (الفواكه العديدة في المسائل المفيدة . الشهير بمجموع المنقور ج 2).
ورتب بعضهم على هذا عدم جواز إمامه من يشربه.

2- التفتير والتخدير:
وقالوا: إن لم يسلم أنه يسكر، فهو يخدر ويفتر . وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن أم سلمة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ” نهى عن كل مسكر ومفتر “. (رمز له السيوطي في الجامع الصغير بعلامة الصحة وأقره المناوي في فيض القدير).
قالوا: والمفتر ما يورث الفتور والخدر في الأطراف . وحسبك بهذا الحديث دليلاً على تحريمه.

3- الضرر :
والضرر الذي ذكروه هنا ينقسم إلى نوعين :
( أ ) ضرر بدني: حيث يضعف القوي، ويغير لون الوجه بالصفرة، والإصابة بالسعال الشديد، الذي قد يؤدي إلى مرض السل.
ومن سديد ما قاله بعض العلماء هنا: أنه لا فرق في حرمة المضر بين أن يكون ضرره دفعيًّا (أي يأتي دفعة واحدة) وأن يكون تدريجيًا، فإن التدريجي هو الأكثر وقوعًا.

( ب ) ضرر مالي: ونعني به أن في التدخين تبذيرًا للمال، أي إنفاقه فيما لا يفيد الجسم ولا الروح، ولا ينفع في الدنيا ولا الآخرة، وقد نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن إضاعة المال . وقال الله تعالي: (ولا تبذر تبذيرًا . إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورًا). (الإسراء: 27).
وقال أحد العلماء :
لو اعترف شخص أنه لا يجد فيه نفعًا بوجه من الوجوه، فينبغي أن يحرم عليه، لا من حيث الاستعمال . بل من حيث إضاعة المال، إذ لا فرق في حرمة إضاعته بين إلقائه في البحر، وإحراقه بالنار، أو غير ذلك من وجوه الإتلاف.

وممن حرم الدخان ونهى عنه:

من علماء مصر فيما مضى:شيخ الإسلام أحمد السنهوري البهوتي الحنبلي، وشيخ المالكية إبراهيم اللقاني .

ومن علماء المغرب: أبو الغيث القشاش المالكي .

ومن علماء دمشق: نجم الذين بن بدر الدين ابن مفسر القرآن، العربي الغزي العامري الشافعي .

ومن علماء اليمن: إبراهيم بن جمعان، وتلميذه أبو بكر بن الأهدل.
ومن علماء الحرمين: المحقق عبد الملك العصامي، وتلميذه محمد بن علامة، والسيد عمر البصري .

وفي الديار الرومية (التركية) الشيخ الأعظم محمد الخواجه، وعيسى الشهواي الحنفي، ومكي بن فرو المكي، والسيد سعد البلخي المدني.
كل هؤلاء من علماء الأمة أفتوا بتحريمه ونهوا عن تعاطيه. (انظر الفواكه العديدة ج 2 ص 80-87).

أدلة القائلين بكراهة التدخين :

أما القائلون بكراهته، فقد استندوا إلى ما يأتي : ( أ ) أنه لا يخلو من نوع ضرر، ولا سيما الإكثار منه . مع أن القليل يجر إلى الكثير.
( ب ) النقص في المال، فإذا لم يكن تبذيرًا ولا إسرافًا ولا إضاعة . فهو نقص في المال، كان يمكن إنفاقه فيما هو خير منه وأنفع لصاحبه والناس.
( ج ) نتن رائحته التي تزعج كل من لم يألفها وتؤذيه، وكل ما كان كذلك فتناوله مكروه كأكل البصل النيئ والثوم والكرّات ونحوها.
( د ) إخلاله بالمروءة بالنسبة لأهل الفضائل والكمالات.
(هـ) يشغل عن أداء العبادة على الوجه الأكمل.
( و ) ومن اعتاده قد يعجز في بعض الأيام عن تحصيله فيتشوش خاطره لفقده.
( ز ) ومثل ذلك إذا كان في مجلس لا ينبغي استعماله فيه، أو يستحي ممن حضر.

وقال الشيخ أبو سهل محمد بن الواعظ الحنفي :
الذي تفيده الأدلة كراهته قطعًا، وحرمته ظنًا، وكراهته لا يتوقف فيه إلا مخذول مكابر، لقاطع الحق معاند، فكل منتن مكروه كالبصل . وهذا الدخان الخبيث أولى، ومنع شاربه من دخول المسجد ومن حضوره المجامع أولى.

أدلة القائلين بإباحة التدخين:

وأما القائلون بالإباحة فتمسكوا بأنها الأصل في الأشياء، ودعوى أنه يسكر أو يخدر غير صحيحة ؛ لأن الإسكار غيبوبة العقل مع حركة الأعضاء، والتخدير غيبوبة العقل مع فتور الأعضاء، وكلاهما لا يحصل لشاربه . نعم، من لم يعتده يحصل له إذا شربه نوع غثيان، وهذا لا يوجب التحريم.
ودعوى أنه إسراف فهذا غير خاص بالدخان. (انظر: رد المختار “حاشية ابن عابدين” ج 5 ص 326).
هذا ما ذهب إليه العلامة الشيخ عبد الغني النابلسي.
وقال الشيخ مصطفى السيوطي الرحباني شارح ” غاية المنتهى ” في فقه الحنابلة :
” كل عالم محقق له اطلاع على أصول الدين وفروعه، إذا خلا من الميل مع الهوى النفساني، وسئل الآن عن شربه بعد اشتهاره، ومعرفة الناس به، وبطلان دعوى المدلين فيه بإضراره للعقل والبدن لا يجيب إلا بإباحته، لأن الأصل في الأشياء التي لا ضرر فيها ولا نص تحريم: الحل والإباحة، حتى يرد الشرع بالتحريم . . واتفق المحققون على أن تحكم العقل والرأي بلا مستند شرعي باطل “. (انظر رد المختار (حاشية ابن عابدين) ج 5 ص 36).
وهذا ما قاله الشيخ بناء على ما تبين له في زمنه . ولو عرف ما ظهر من ضرره اليوم لغيّر رأيه يقينًا.

أدلة القائلين بالتفصيل في حكم التدخين:

وأما القائلون بالتفصيل فقالوا : إن هذا النبات في حد ذاته طاهر غير مسكر ولا مضر ولا مستقذر، فالأصل إباحته، ثم تجري فيه الأحكام الشرعية :
فمن لم يحصل له ضرر باستعماله في بدنه أو عقله، فهو جائز له.
ومن ضره حرم عليه استعماله كمن يضر به استعمال العسل.
ومن نفعه في دفع مضر كمرض، وجب عليه استعماله.
وثبوت هذه الأحكام بموجب العارض، ويكون في حد ذاته مباحًا كما لا يخفى.

أقوال العلماء المعاصرين في حكم التدخين:

وإذا غضضنا الطرف عن المتقدمين، ونظرنا إلى أقوال المعاصرين، وجدناهم أيضًا مختلفين في إصدار حكم بشأنه.
فمنهم – كالشيخ حسنين مخلوف مفتي مصر الأسبق – الذي تبنى رأي بعض من سبق من العلماء، أن الأصل فيه الإباحة، وتعرض له الحرمة أو الكراهة بمقتضى، كأن يحصل منه ضرر كثير أو قليل، في النفس أو في المال أو فيهما، أو يؤدي إلى مفسدة، وضياع حق، كحرمان زوجته أو أولاده، أو من يحق عليه نفقتهم شرعًا من القوت بسبب إنفاق ماله في شرائه، فإذا تحقق شيء من هذه العوارض حكم بكراهته أو حرمته على حسب ضعفها أو قوتها، وإذا خلا منها وأشباهها كان حلالاً. (انظر: فتاوى شرعية للشيخ حسنين مخلوف ج 2 ص 112 – 113).

ومنهم من جزم بحرمته، وألّف فيه بعض الرسائل، وعامة علماء نجد يحرمونه، وخصوصًا إذا تعاطاه عالم من علماء الدين، وقد قال العلامة الشيخ محمد بن مانع كبير علماء قطر ومدير معارف السعودية في عصره – قال في حاشية له على ” غاية المنتهي ج 2 ص 332 :
” إن القول بإباحة الدخان . ضرب من الهذيان، فلا يعول عليه الإنسان، لضرره الملموس، وتحذيره المحسوس، ورائحته الكريهة، وبذل المال فيما لا فائدة فيه، فلا تغتر بأقوال المبيحين . فكل يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.

رأي الشيخ محمود شلتوت في التدخين:

ولعل من أعدل ما قيل فيه وأصحه استدلالاً، ما ذكره المغفور له الشيخ الأكبر محمود شلتوت شيخ الأزهر في فتاويه حين قال: (مما يذكر هنا أن الشيخ رحمه الله كان مبتلى بالتدخين حيث اعتاده من عهد الشباب ولم يستطع التحرر من سلطانه . ولكنه لإنصافه رجح القول بالتحريم إعمالاً لعلل الأحكام وقواعد التشريع العامة).:

” إذا كان التبغ لا يحدث سكرًا، ولا يفسد عقلاً، فإن له آثارًا ضاره . يحسها شاربه في صحته، ويحسها فيه غير شاربه . وقد حلل الأطباء عناصره، وعرفوا فيها العنصر السام الذي يقضي – وإن كان ببطء – على سعادة الإنسان وهنائه . وإذن فهو ولاشك، أذي وضار . والإيذاء والضرر خبث يحظر به الشيء في نظر الإسلام.
وإذا نظرنا مع هذا إلى ما ينفق فيه من أموال، كثيرًا ما يكون شاربه في حاجة إليها، أو يكون صرفها في غيره أنفع وأجدى.
وإذا نظرنا إلى هذا الجانب عرفنا له جهة مالية تقضي في نظر الشريعة بحظره وعدم إباحته.

ومن هنا نعلم أخذًا من معرفتنا الوثيقة بآثار التبغ السيئة في الصحة والمال . أنه مما يمقته الشرع ويكرهه . وحكم الإسلام على الشيء بالحرمة أو الكراهة لا يتوقف على وجود نص خاص بذلك الشيء . فلعلل الأحكام، وقواعد التشريع العامة، قيمتها في معرفة الأحكام، وبهذه العلل وتلك القواعد، كان الإسلام ذا أهلية قوية في إعطاء كل شيء يستحدثه الناس حكمه من حل أو حرمة . وذلك عن طريق معرفة الخصائص والآثار الغالبة للشيء، فحيث كان الضرر كان الحظر، وحيث خلص النفع أو غلب كانت الإباحة، وإذا استوى النفع والضرر كانت الوقاية خيرًا من العلاج “. (الفتاوى للشيخ شلتوت ص 354 طـ . مطبعة الأزهر). ا هـ.

تمحيص وترجيح:
ويبدو لنا أن الخلاف الذي نقلناه عن علماء المذاهب عند ظهور الدخان، وشيوع تعاطيه، واختلافهم في إصدار حكم شرعي في استعماله، ليس منشأه في الغالب اختلاف الأدلة، بل الاختلاف في تحقيق المناط.
نعني أنهم متفقون على أن ما يثبت ضرره على البدن أو العقل يحرم تعاطيه.
ولكنهم يختلفون في تطبيق هذا الحكم على الدخان.
فمنهم من أثبت له عدة منافع في زعمه . ومنهم من أثبت له مضار قليلة تقابلها منافع موازية لها . ومنهم من لم يثبت له أية منافع، ولكن نفى عنه الضرر . وهكذا.

ومعنى هذا: أنهم لو تأكدوا من وجود الضرر في هذا الشيء لحرموه بلا جدال .

وهنا نقول: إن إثبات الضرر البدني أو نفيه في ” الدخان ” ومثله مما يتعاطى ليس من شأن علماء الفقه، بل من شأن علماء الطب والتحليل . فهم الذين يسألون هنا، لأنهم أهل العلم والخبرة . قال تعالى: (فاسأل به خبيرًا) (الفرقان: 59) .وقال: (ولا ينبئك مثل خبير). (فاطر: 14).

أما علماء الطب والتحليل فقد قالوا كلمتهم في بيان آثار التدخين الضارة على البدن بوجه عام وعلى الرئتين والجهاز التنفسي بوجه خاص . وما يؤدي إليه من الإصابة بسرطان الرئة مما جعل العالم كله في السنوات الأخيرة ينادي بوجوب التحذير من التدخين.
على أن من أضرار التدخين ما لا يحتاج إثباته إلى طبيب اختصاصي ولا إلى محلل كيماوي، حيث يتساوى في معرفته عموم الناس، من مثقفين وأميين.
وينبغي أن نذكر هنا ما نقلناه من قبل عن بعض العلماء، وهو أن الضرر التدريجي كالضرر الدفعي الفوري، كلاهما مقتض للتحريم . ولهذا كان تناول السم السريع التأثير في الصدر والسم البطيء التأثير حرامًا بلا ريب.

وعلى هذا القول: إن اختلاف علماء الفتوى في التحريم والإباحة في نبات الدخان إنما هو بناء على ما ثبت لدى كل منهم من الإضرار أو عدمه.
أما ما يقوله بعض الناس: كيف تحرمون مثل هذا النبات بلا نص ؟
فالجواب:
أنه ليس من الضروري أن ينص الشارع على كل فرد من المحرمات، ويبغي أن يضع ضوابط أو قواعد تندرج تحتها جزئيات شتى، وأفراد كثيرة . فإن القواعد يمكن حصرها، أما الأفراد فلا يمكن حصرها.

ويكفي أن يحرم الشارع الخبيث أو الضار، ليدخل تحته ما لا يحصى من المطعومات والمشروبات الخبيثة أو الضارة، ولهذا أجمع العلماء على تحريم الحشيشة ونحوها من المخدرات، مع عدم وجود نص معين بتحريمها على الخصوص.

وهذا الإمام أبو محمد بن حزم الظاهري، نراه متمسكًا بحرفيه النصوص وظواهرها، ومع هذا يقرر تحريم ما يُستضر بأكله، أخذا من عموم النصوص قال: وأما كل ما أضر فهو حرام لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: ” إن الله كتب الإحسان على كل شيء .. فمن أضر بنفسه أو بغيره فلم يحسن، ومن لم يحسن فقد خالف كتاب (أي كتابة) الله الإحسانَ على كل شيء “. (انظر: المحلى ج 7 ص 504-505، المسألة 1030 طـ . الإمام).
ويمكن أن يستدل لهذا الحكم أيضًا بقوله – صلى الله عليه وسلم -: ” لا ضرر ولا ضرار ” . كما يمكن الاستدلال بقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا). (النساء: 29).

ومن أجود العبارات الفقهية في تحريم تناول المضرات عبارة الإمام النووي في روضته قال :
” كل ما أضر أكله كالزجاج والحجر والسم، يحرم أكله . وكل طاهر لا ضرر في أكله يحل، إلا المستقذرات الطاهرات، كالمني والمخاط . فإنها حرام على الصحيح . . إلى أن قال: ويجوز شرب دواء فيه قليل سم إذا كان الغالب السلامة واحتيج إليه.

ومن الناس من يتمسك هنا بقاعدة: الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما نص الشرع على تحريمه.

والرد على هؤلاء أن من علماء الأصول من عكس ذلك فقال: الأصل في الأشياء الحظر إلا ما جاء الشرع بإباحته.
والصحيح من قول هؤلاء وهؤلاء التفصيل . فالأصل في المنافع الإباحة، لقوله تعالى في معرض الامتنان على عباده: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا) (البقرة: 29). ولا يمتن عليهم بما هو محرم عليهم.
وأما المضار، وهي: ما يؤذي البدن أو النفس أو هما معًا . فالأصل فيها الحظر والتحريم.

على أن في ” التدخين ” نوعًا من الضرر يجب ألا يغفل، وهو ضرر يقيني لا شك فيه، وهو الضرر المالي . ونعني به إنفاق المال فيما لا ينفع بحال، لا في الدنيا ولا في الدين، ولا سيما مع غلاء أثمانه، وإسراف بعض هواته في تناوله، حتى إن أحدهم قد ينفق فيه ما يكفي لإعاشة أسرة كاملة.

أما ما يجده بعض الناس من راحة نفسية في التدخين، فليس منفعة ذاتية فيه، وإنما ذلك لاعتياده عليه وإدمانه له فهو لهذا يرتاح لاستعماله . شأن كل ما يعتاد الإنسان تعاطيه مهما كان مؤذيًا وضارًا غاية الضرر.

وقد قال الإمام ابن حزم في ” محلاه ” (المحلى: ج 7 ص 503، مسألة 1027) : السرف حرام . وهو:
1- النفقة فيما حرم الله تعالى، قلت أو كثرت، ولو أنها جزء من قدر جناح بعوضة.
2- أو التبذير فيما لا يحتاج إليه ضرورة، مما لا يبقى للمنفق بعده غنى.
3- أو إضاعة المال وإن قل برميه عبثًا…
قال الله تعالى: (ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين) ا هـ . ولا يخفى أن إنفاق المال في التدخين إضاعة له.
وقد أعجبنا مما نقلناه من قبل قول أحد العلماء: لو اعترف شخص أنه لا يجد في التدخين نفعًا بوجه من الوجوه، فينبغي أن يحرم عليه . من حيث إنه إضاعة للمال . إذا لا فرق في حرمة إضاعته بين إلقائه في البحر، وإحراقه بالنار، أو غير ذلك من وجوه الإتلاف.
فكيف إذا كان مع الإتلاف للمال ضرر يقينا أو ظنًا ؟ . أي أنه اجتمع عليه إتلاف المال وإتلاف البدن معًا.
فواعجبًا لمن يشتري ضرر بدنه بحُرِّ ماله طائعًا مختارًا.

وهناك ضرر آخر، يغفل عنه عادة الكاتبون في هذا الموضوع وهو الضرر النفسي، ونقصد به، أن الاعتياد على التدخين وأمثاله، يستعبد إرادة الإنسان، ويجعلها أسيرة لهذه العادة السخيفة . بحيث لا يستطيع أن يتخلص منها بسهولة إذا رغب في ذلك يومًا لسبب ما . كظهور ضررها على بدنه، أو سوء أثرها في تربية ولده، أو حاجته إلى ما ينفق فيها لصرفه في وجوه أخرى أنفع وألزم، أو نحو ذلك من الأسباب.
ونظرًا لهذا الاستعباد النفسي، نرى بعض المدخنين، يجور على قوت أولاده، والضروري من نفقة أسرته، من أجل إرضاء مزاجه هذا، لأنه لم يعد قادرًا على التحرر منه.

وإذا عجز مثل هذا يومًا عن التدخين، لمانع داخلي أو خارجي، فإن حياته تضطرب، وميزانه يختل، وحاله تسوء، وفكرة يتشوش، وأعصابه تثور لسبب أو لغير سبب.

ولا ريب أن مثل هذا الضرر جدير بالاعتبار في إصدار حكم على التدخين.
ويتبين من هذا التمحيص الذي ذكرناه: أن إطلاق القول بإباحة التدخين لا وجه له، بل هو غلط صريح، وغفلة عن جوانب الموضوع كله، ويكفي ما فيه من إضاعة لجزء من المال بما لا نفع فيه وما يصحبه من نتن الرائحة المؤذية، وما فيه من ضرر بعضه محقق، وبعضه مظنون أو محتمل.
وإن كان لهذا القول وجه فيما مضى، عند ظهور استعمال هذا النبات في سنة ألف من الهجرة، بحيث لم يتأكد علماء ذلك العصر من ثبوت ضرره، فليس له أي وجه في عصرنا بعد أن أفاضت الهيئات العلمية الطبية في بيان أضراره، وسيّئ آثاره، وعلم بها الخاص والعام، وأيدتها لغة الأرقام.

وحسبنا ما جاء من إحصاءات، تضمنها تقرير أكبر هيئة طبية في العالم وإذا سقط القول بالإباحة المطلقة . لم يبق إلا القول بالكراهة أو القول بالتحريم.
وقد اتضح لنا مما سبق أن القول بالتحريم أوجه وأقوي حجة . وهذا هو رأينا . وذلك لتحقق الضرر البدني والمالي والنفسي باعتياد التدخين.
وإذا قيل لمجرد الكراهة، فهل هي كراهة تنزيه أو تحريم ؟ الظاهر الثاني.
نظرا لقوة الاعتبارات والأدلة التي أدت إلى القول بالتحريم فمن أنزل الحكم عن الحرام لم ينزل عن درجة المكروه التحريمي.

ومهما يكن فمن المقرر أن الإصرار على الصغائر يقربها من الكبائر . ولهذا نخشى أن يكون الإصرار على المكروه مقربًا من الحرام.
على أن هناك ملابسات واعتبارات تختص ببعض الناس دون بعض، تؤكد الحرمة وتغلظها كما تؤكد الكراهة عند من قال بالكراهية، بل تنقلها إلى درجة التحريم.
وذلك مثل أن يضر الدخان شخصًا بعينه، حسب وصف طبيب ثقة، أو حسب تجربة الشخص نفسه، أو حسب تجربة آخرين في مثل حاله.

ومثل أن يكون محتاجًا إلى ثمنه لنفقته أو نفقة عياله، أو من تجب عليه نفقتهم شرعًا. (وينبغي أن يذكر هنا أيضًا أن ملايين من المسلمين يموتون من الجوع – حقيقة لا تجوزًا – على حين تنفق عشرات الملايين في شهوة التدخين).
ومثل أن يكون الدخان مستوردًا من بلاد تعادي المسلمين، ويذهب ثمنه لتقويتها على المسلمين.
ومثل أن يصدر ولي الأمر الشرعي أمرًا بمنع التدخين، وطاعته واجبة فيما لا معصية فيه.
ومثل أن يكون الشخص مقتدى به في علمه ودينه، مثل علماء الدين، ويقرب منهم الأطباء.
هذا وينبغي أن نضع في اعتبارنا ونحن نصدر حكمًا بشأن التدخين عدة أمور لابد من مراعاتها، لتكون نظرتنا شاملة وعادلة.

الأولى: أن من المدخنين من يتمنى الخلاص من التدخين، ولكنه عجز عن تحقيق ذلك لتمكن هذه العادة من جسمه وأعصابه تمكنًا لم يجعل لإرادته قدرة على التحرر منه، بحيث يصيبه أذى كثير إذا تركه . فهذا معذور بقدر محاولته وعجزه، ولكل امرئ ما نوى.

الثانية: أن ميلنا إلى تحريم التدخين لما ذكرنا من وجهة النظر والاعتبارات الشرعية، لا يعنى أنه مثل شرب الخمر أو الزنى أو السرقة مثلاً، فإن الحرام في الإسلام درجات، بعضها صغائر، وبعضها كبائر، ولكل حكمه ودرجته . فالكبائر لا تكفرها إلا التوبة النصوح، أما الصغائر فتكفرها الصلوات الخمس، وصلاة الجمعة، وصيام رمضان وقيامه، وغير ذلك من الطاعات، بل يكفرها مجرد اجتناب الكبائر.
وقد جاء عن ابن عباس وبعض السلف أن الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة . ولكن هذا أيضًا غير متفق عليه.

الثالثة: أن المحرم المختلف فيه ليس في درجة الحرام المتفق عليه . ولهذا يصعب أن ترمي فاعله بالفسوق، وأن تسقط شهادته، ونحو ذلك، وخصوصًا إذا كان مما عمت به البلوى.
هذا، وقد تبين من هذه الدراسة: أن من يقول عن بعض العلماء: أنه أدار معظم الحكم في التدخين على المقدرة المالية وحدها، أو عدمها، فيحرم في حالة عجز المدخن عن مصاريف التدخين، ويكره للقادر عليه، فهو غير سديد ولا مستوعب ؛ فإن الضرر البدني والنفسي يجب أن يكون له اعتباره أيضًا، بجوار الضرر المالي.

إن الغني ليس من حقه أن يضيع ماله، ويبعثره لما يشاء ؛ لأنه مال الله أولاً، ومال الجماعة ثانيًا.
كما أن قول من يقول أن كثير من علماء الدين يدخنون، فإن هؤلاء العلماء لم يدَّعو لأنفسهم العصمة، وكثير منهم ابتلوا به في مرحلة الشباب والطيش، ثم ضعفت إرادتهم عن التخلص من نيره، ومنهم من أفتى بحرمته رغم أنه مبتلى بتعاطيه.
وقد رأينا من الأطباء أيضًا كثيرين يؤمنون بأضرار التدخين، ويتحدثون أو يكتبون في ذلك، ومع ذلك لم يقلعوا عن التدخين.
وإذا كان التدخين مذمومًا في شأن الرجال، فهو أشد ذما في شأن النساء، لأنه يشوّه جمال المرأة، ويغير لون أسنانها، ويجعل رائحة فمها كريهة، مع ما يجب أن تكون عليه الأنثى من حسن وجمال.
ونصيحتنا لكل مدخن أن يقلع عن هذه الآفة، بعزيمة قوية، وتصميم صارم ؛ فإن التدرج فيها لا يغني.

ومن كان ضعيف الإرادة، عليه أن يقلل من شرها ما استطاع، ولا يحسّنها لغيره، ولا يغري بها أحدًا، كأن يقدمها للآخرين، أو يلح على زواره بتناولها، بل ينبغي أن يبين لغيره أضرارها المالية والبدنية والنفسية، وأقرب هذه الأضرار أنه أصبح عبدًا لها بحيث لم يستطع أن يتخلص منها، وعليه أن يسأل الله تعالى أن يعينه على التحرر من نيرها.

ونصيحتنا للشباب خاصة، أن ينزهوا أنفسهم عن الوقوع في هذه الآفة التي تفسد عليهم صحتهم، وتضعف من قوتهم ونضرتهم، ولا يسقطوا فريسة للوهم الذي يخيل إليهم أنها من علامات الرجولة، أو استقلال الشخصية . ومن تورط منهم في ارتكابها يستطيع بسهولة التحرر منها، والتغلب عليها وهو في أول الطريق، قبل أن تتمكن هي منه، وتتغلب عليه، ويعسر عليه فيما بعد النجاة من براثنها إلا من رحم الله.
وعلى أجهزة الإعلام أن تشن حملة منظمة بكل الأساليب على التدخين وتبين مساوئه.
وعلى مؤلفي ومخرجي ومننتجي الأفلام والتمثيليات والمسلسلات، أن يكفوا عن الدعاية للتدخين، بوساطة ظهور ” السيجارة ” بمناسبة وغير مناسبة في كل المواقف.