ذهب جمهور العلماء إلى عدم نقض الوضوء من أكل لحوم الإبل، وهذا القول محكي عن أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وأبي طلحة، وأبي الدرداء، وابن عباس، وعامر بن ربيعة، وأبي أمامة، رضي الله عنهم. وبه قال جمهور التابعين ومالك وأبو حنيفة والشافعي ، في حين ذهب أحمد بن حنبل ونفر معه إلى أن ذلك ينقض الوضوء ، ورجح غير واحد من العلماء المذهب الأول ، وحسب هذا المذهب أن الخلفاء الأربعة عليه .

يقول الدكتور يوسف القرضاوي :-
من النواقض المختلف فيها: أكل لحم الإبل فقد ذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية، ويحيى بن يحيى إلى أن ذلك ينقض الوضوء. وحكاه ابن المنذر عن جابر بن سمرة الصحابي، ومحمد بن إسحاق، وأبي ثور، وأبي خيثمة.

واختاره من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر، وأشار البيهقي إلى ترجيحه والذب عنه، وقواه النووي في المجموع.
وحجة هذا القول: ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن سَمُرة: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا توضأ ” قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل . رواه مسلم من طرق.

وعن البراء: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل، فأمر به.
قال أحمد وإسحاق: صح في هذا حديثان: حديث جابر وحديث البراء.

وهناك قول بالوضوء مما مست النار أي من اللحوم المطبوخة بصفة عامة. وليس المراد: الخبز المخبوز في النار، أو الخضروات المطهوة في النار.

وهو قول عمر بن عبد العزيز والحسن والزهري وأبي قلابة وأبي مجلز، وحكاه ابن المنذر عن جماعة من الصحابة: ابن عمر وأبي طلحة وأبي موسى وزيد بن ثابت وأبي هريرة وعائشة، رضي الله عنهم.

وحجتهم ما رواه مسلم عن زيد بن ثابت وأبي هريرة وعائشة: ” توضأوا مما مست النار .

والقول الثالث: أنه لا يجب الوضوء بأكل أي شيء، سواء مسته النار أم لم تمسه، لحم الإبل أم غيره.
قال النووي: وبه قال جمهور العلماء، وهو محكي عن أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب، وأبي طلحة، وأبي الدرداء، وابن عباس، وعامر بن ربيعة، وأبي أمامة، رضي الله عنهم. وبه قال جمهور التابعين ومالك وأبو حنيفة والشافعي.

وحجتهم: ما رواه جابر بن عبد الله: “كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترك الوضوء مما مست النار”. قال النووي: حديث جابر صحيح. رواه أبو داود والنسائي وغيرهما بأسانيد صحيحة.
واحتجوا أيضا بحديث ابن عباس: ” أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة، ثم صلى، ولم يتوضأ ” رواه البخاري ومسلم.
وعن عمرو بن أمية الضمري قال: ” رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحتز كتف شاة يأكل منها، ثم صلى ولم يتوضأ ” رواه البخاري ومسلم من طرق.

وعن ميمونة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفا، ثم صلى ولم يتوضأ. رواه مسلم.
وعن أبي رافع قال: ” أشهد لكنت أشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطن الشاة، ثم صلى، ولم يتوضأ “. رواه مسلم.
قال النووي: وعن جابر وعائشة وأم سلمة مثله.

قال البيهقي وغيره: وفي الباب عن عثمان وابن مسعود، وسويد بن النعمان، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والمغيرة، وأبي هريرة، وعبد الله بن الحارث، ورافع بن خديج، وغيرهم.

وعن علي وابن عباس أنهما قالا: ” الوضوء مما خرج، وليس مما دخل “. وكأنهما يشيران إلى قاعدة استنبطاها من النصوص التي وردت في نقض الوضوء.

وعمدة الجمهور في الاحتجاج: حديث جابر: كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، و(ما) للعموم، أي من كل ما مسته النار، سواء: كان لحم إبل أم غيره.

قيل: ولكن هذا لا يرد على الحنابلة، لأنهم يقولون: ينتقض بأكله نيئا.

ورد الجمهور بأنه محمول على أكله مطبوخا، لأنه الغالب المعهود.

وبعضهم حمل الوضوء في حديث جابر بن سمرة على المعنى اللغوي للكلمة، وهو النظافة، فيكون المقصود هنا: غسل اليدين والفم، قالوا: وخص لحم الإبل بذلك، لزيادة زهومته وثقله، وقد نهي الإنسان أن يبيت وفي يده، أو في فمه دسم، خوفا من الحشرات المؤذية، من عقرب ونحوها، وضعفوا هذا الجواب، لأن حمل الألفاظ على المعنى الشرعي مقدم على حملها على المعنى اللغوي. ورد الجمهور بأنهم لجأوا لذلك جمعا بين الأحاديث. ( انظر الذخيرة للقرافي)

ومن أبرز دلائل الجمهور: أن هذا القول ـ عدم النقض بأكل لحم الجزور ـ هو قول الخلفاء الراشدين جميعا: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وقول علماء الصحابة، بل قول جماهير الصحابة، كما قال النووي. ولا يعقل أن يكون أكل لحم الإبل ينقض الوضوء، ويخفى على هؤلاء، وهم ألصق الناس برسول الله، وأقربهم إليه، وأعرفهم بسنته، فكيف عاشوا مدة ثلاثين سنة بعد وفاته ولم يعرفوا هذا الحكم الذي يتعلق بشأن يتكرر كثيرا في حياتهم، وهو أكل لحم الإبل؟ ولذا قال النووي: وأقرب ما يُستراح إليه: قول الخلفاء الراشدين وجماهير الصحابة. ( انظر المجموع ) .

تحقيق القول في حديث الوضوء من لحم الإبل .

ثم إن الحديث الذي روي في الوضوء من لحم الإبل ـ وهو حديث جابر ابن سمرة ـ لم يرد بلفظ عام، وإنما سأل سائل، فأجيب بجواب خاص، فالحديث إذن في واقعة حال، ووقائع الأحوال لها خصوصيتها، فلا تنزل منزلة العموم في الأقوال.
وقد يحمل الأمر في قوله “توضأوا من لحوم الإبل” على الاستحباب لا على الوجوب، وهو متفق مع القاعدة التي اخترناها في (أصول الفقه الميسر)، وهي: أن الأمر في القرآن للوجوب، إلا أن يصرف عنه صارف، وأن الأمر في السنة للاستحباب، إلا أن يصرف عنه صارف، كما إذا اقترن بوعيد أو تشديد.

على أن هذا الحديث في الوضوء من لحوم الإبل ـ وإن رواه مسلم ـ لم يخل من كلام حول سنده، فقد ذكروا أن الإمام علي ابن المديني قال عن أحد رواته: جعفر بن أبي ثور ـ وهو راوي الحديث الوحيد عن جده جابر بن سمرة ـ: جعفر مجهول. ( انظر تهذيب سنن أبي داود لابن القيم ) وقد ردوا على ابن المديني. ولكن لا ينبغي إسقاط كلامه عن درجة الاعتبار، فإن الباحث يتساءل: كيف لم ينقل هذا الحديث عن جابر غير حفيده هذا؟ ولماذا لم ينقله غيره من التابعين وما أكثرهم؟!
وقد كان جابر بن سمرة من صغار الصحابة، وعاش إلى عهد عبد الملك ابن مروان، ومات في سنة 76هـ على أرجح الروايات، وقد عدّ له المزّي في (تهذيب الكمال) أربعة وعشرين راويا رووا عنه، فلماذا لم يرو عنه بعض هؤلاء هذا الحديث المهم؟ لماذا انفرد به جعفر وهو ليس من المكثرين عنه؟ ( انظر تهذيب الكمال )

وقد اختلف مترجمو جعفر هذا في نسبه، فقيل: جابر بن سمرة: جده من قبل أمه، وقيل: من قبل أبيه.

وقيل: إن اسم أبيه عكرمة، وقيل: مسلم، وقيل: سلمة. قال أبو أحمد الحاكم: ذكر عكرمة في نسبه ليس بمحفوظ.
وقال ابن حبان: جعفر بن أبي ثور، هو أبو ثور بن عكرمة، فمن لم يحكم صناعة الحديث توهم أنهما رجلان مجهولان.
وقد قال الحافظ في (تقريب التهذيب) في الحكم على جعفر هذا: مقبول، وهي آخر درجات التوثيق، ومعنى أنه مقبول: أي حيث يتابع، فإذا لم يتابع فليّن الحديث كما قال ابن حجر. ونلاحظ هنا: أنه لم يتابع أحد جعفرا في رواية هذا الحديث، على ما له من أهمية، وما ينفرد به من حكم!!

على أنا إذا سلمنا بصحة الحديث من ناحية سنده، ولم نتأول معناه بما تأوله الكثيرون من علماء السلف، بأن المراد بالوضوء فيه: المعنى اللغوي، وهو غسل اليد أو غسل الفم أو غسلهما معا، نظرا لغلظ لحم الإبل وحرارته، وشدة زهومته، بخلاف لحم الغنم، فهناك مخرج أخير من هذا الحديث، ومثله حديث البراء بن عازب عند أبي داود وغيره، وهو: أن الحديث منسوخ بحديث جابر بن عبد الله: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترك الوضوء مما مست النار. وقد رواه أصحاب السنن. قال الترمذي: وكأن هذا الحديث ناسخ لحديث الوضوء من النار.

قال الشيخ محمود خطاب السبكي في كتاب المنهل العذب المورود: –
ولما كان لحم الإبل فردا مما مسته النار، وقد نسخ وجوب الوضوء منه بجميع أفراده، فاستلزم نسخ وجوبه من لحوم الإبل. فما قاله النووي من أن هذا الحديث عام، وحديث الوضوء من لحم الإبل خاص، والخاص مقدم على العام: مدفوع، بأنا لا نسلم أن نسخه لكونه خاصا، بل لأنه فرد من أفراد العام الذي نسخ، وإذا نسخ العام ـ الذي هو وجوب الوضوء مما مست النار ـ نسخ كل فرد من أفراده، ومنه لحوم الإبل.

وما قاله الشوكاني في (نيل الأوطار): من أن فعله صلى الله عليه وسلم (أي وكذا تركه): غير ناسخ للقول الخاص بنا، فمحله إذا قام دليل صريح على الخصوصية، ولا دليل هنا.

والقول بأن الخاص مقدم على العام، وليس منسوخا به: إنما يتمشى على رأي من يقول بتقديمه عليه، ولو تأخر العام. أما على رأي من يقول: إن العام المتأخر ناسخ، فيكون حديث ترك الوضوء مما مست النار: ناسخا لأحاديث الوضوء من أكل لحوم الإبل.