الزواج سنة إلهية في كون الله ، لم تقصر على بني البشر ، والتخلف عنها ، تخلف عن ركب الخلق، والتاركون لها أطفال كبار ،هاربون من تحمل المسئولية ، مانعون أنفسهم من ثمرات الزواج البهية، من السكن والمودة بين الزوجين ، وإنشاء أسرة متآلفة ، وتعارف والتحام بين العائلات ، وإنجاب ذرية تحمل النسب والذكرى للأبوين ، وفيه تحمل للأعباء بين الزوجين ، مع راحة للبال ، واطمئنان للنفس، وفرح وسرور، لا يعيشه إلا المتزوجون.

يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي :
كما هدف الإسلام إلى تكوين الفرد
أو الإنسان الصالح، بوصفه اللبنة الأساسية فى البنيان الإجتماعي للأمة، هدف كذلك إلى بناء الأسرة الصالحة، التي هي الخلية الأولى والضرورية لقيام المجتمع الصالح.
ولا خلاف أن الزواج – الذى يربط بين الرجل والمرأة برباط مقدس – هو أساس تكوين الأسرة المنشودة، فلا مكان لقيام أسرة صالحة، أو أسرة حقيقية بغير الزواج، كما شرعه الله تعالى.

أفكار منحرفة عارضت الزواج:

عرفت الإنسانية في القديم والحديث أفكارًا ومذاهب تعارض فكرة الزواج.
ففي فارس ظهرت قبل الإسلام فلسفة (ماني) الذى يزعم أن العالم مليء بالشر، ويجب فناؤه، ومنع الزواج أقرب وسيلة إلى المسارعة بفناء العالم.
وفي ظل النصرانية ظهرت (الرهبانية) العنيفة، التي تفر من الحياة، وتلجأ إلى الأديرة، وتحرم الزواج؛ لأن المرأة فتنة مجسمة، وشيطان في صورة إنسان، والقرب منها خطيئة تلوث الأرواح، وتبعد عن ملكوت السماء.
وفي العصر الحديث وجد في الغرب فلاسفة متشائمون، صبوا جل سخطهم على المرأة، وقالوا: إنها حية تسعى ليّن مسها، قاتل سمها، والزواج يعطيها فرصة لتتحكم في الرجل، وتثقله بالقيود والتكاليف، فلماذا يضع الرجل-باختياره- الغُّلّ في عنقه، وقد خلق حرًا؟
ومن المؤسف أن بعض شبابنا (العصريين) غرتهم هذه الأفكار، فأعرضوا عن الزواج، لما وراءه من مسئوليات وتكاليف وقيود، وهم يريدون أن يعيشوا العمر كله أطفالاً، لا يحملون عبئًا، ولا يتحملون تبعة، فإن غلبتهم الشهوة، ونادتهم الغريزة، ففي مباءات الحرام الخبيث، ما يغنيهم عن طيب الحلال.

مقاصد الإسلام من الزواج:

(1) سنة الله فى هذا الكون أن لا شيء فيه يستطيع أن يؤدي مهمته وحده، بل خلقه الله محتاجًا إلى الاتصال بغيره من نوعه ليكمل به ويكمله، فلا بد أن يتصل الموجب بالسالب في عالم الكهرباء حتى يحدث التيار، وآثاره من الضوء والحرارة والحركة وغيرها، وكذلك لا بد أن يتصل الإلكترون بالبريتون فى عالم الذرة.
ولا بد من اتصال حبوب التذكير بحبوب التأنيث فى عالم النبات حتى ينتج الزرع والشجر، ويخرج الحب والثمر، ولا بد من اتصال الذكر بالأنثى في عالم الحيوان حتى يحدث الدر والنسل.
وإلى هذه السنة الكونية العامة أشار القرآن الكريم، فقال تعالى:
-قال تعالى :(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذاريات:49).
-وقال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) (يس:36).
واستجابة لهذه السنة شرع الله سبحانه في عالمنا الإنساني لونًا رفيعًا كريمًا من الاتصال بين الرجل والمرأة يليق بمكانة الإنسان وكرامته، وهو ما نسميه (الزواج).
لقد أودع الله صدر الرجل حنينًا إلى المرأة ، وأودع صدر المرأة حنينًا إلى الرجل، فلا يزال كل منهما يحس بحاجة تناديه فوق المأكل والمشرب، يشعر بفراغ في كيانه النفسي لا يملؤه إلا هذا اللقاء على شرع الله وسنته (الزواج) فيستقر بعد اضطراب، ويطمئن بعد قلق، ويجد كلاهما في صاحبه السكون والمودة والرحمة، تغمر جوانحه، وتضيء جوانب حياته، وهذه آية من آيات الله الكبرى في هذا الوجود، لفتنا إليه الكتاب العزيز: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21).

(2) وبالزواج يحدث النسل، الذى يمتد به وجود الإنسان، فيطول عمره، ويتصل عمله، بذريته الصالحة من بعده، ولهذا امتن الله على عباده فقال: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (النحل:72).
ولهذا دعا نبي الله زكريا ربه فقال: (رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) (الأنبياء:89).
(فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (مريم: 5،6).
ودعا أبو الأنبياء إبراهيم ربه فقال:
(هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) (الصافات: 100،101).
(الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء) (إبراهيم:29).
وذكر القرآن من أوصاف عباد الرحمن:
(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً) (الفرقان:74).
وبالنسل تنمو الأمة، ويكثر عددها، فتعمر أرضها وتستغل كل طاقاتها، وتقوى على مجابهة أعدائها، ولا شك أن لكثرة العدد قيمة في ميزان القوى العالمية. ومن هنا امتن الله على قوم بالكثرة، فقال على لسان شعيب لقومه: (وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) (الأعراف:86)، وقال صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى) (رواه البيهقي في السنن عن أبي أمامة، وذكره في صحيح الجامع الصغير ).

وبالنسل يبقى النوع الإنسانى كله، وتستمر حياته على الأرض إلى ما شاء الله من أجل معلوم.
قال تعالى: (أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء: 1).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 12).

(3) والزواج. من جهة ثالثة – تمام الدين للمرء المسلم، به يغض بصره، ويعف نفسه، ويجد متنفسًا لشهوته فى الحلال، فلا يفكر في الحرام، ولهذا قال – صلى الله عليه وسلم – عن الزواج: (إنه أغض للبصر وأحصن للفرج).
وقال: (من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الباقي) (قال المنذري في الترغيب: رواه الطبراني في الأوسط، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. أقول: ووافقه الذهبي: 161/2).
والشطر: النصف.

(4) والزواج ليس حفظًا للدين فحسب، ولكنه أيضًا من مقومات السعادة الدنيوية، التي لا يكرهها الإسلام، بل يحبها لأتباعه، ويوفرها لأبنائه، ليفرغهم لما هو أعظم، من السمو بالنفس، والاتصال بالملأ الأعلى قال – صلى الله عليه وسلم -: (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) (رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو).
وقال: (أربع من السعادة: المرأة الصالح، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء) (رواه الحاكم وأبو نعيم فى الحلية والبيهقى فى شعب الإيمان عن سعد، وذكره فى صحيح الجامع الصغير).
وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من سعادة ابن آدم: ثلاثة، ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة؛ من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقاوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء) (قال الهيثمي: رواه أحمد والبزار والطبراني فى الكبير والأوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح).

(5) والزواج هو الطريق الوحيد لتكوين الأسرة التي هى نواة المجتمع، وأساس بنائه، ولا يقوم مجتمع إنساني كريم، إلا إذا قامت قبله الأسرة، ففي ظلال الأمومة والأبوة، والبنوة والأخوة، تغرس المشاعر الطيبة والعواطف الخيرة من المحبة والإيثار والعطف والرحمة والتعاون.

(6) وبالزواج تنمو الصلات الاجتماعية، فيضم الإنسان عشيرة إلى عشيرته، وأسرة إلى أسرته، أولئك هم أصهاره وأخوال أولاده وخالاتهم. وبذلك تتسع دائرة الألفة والمودة، والترابط الاجتماعي، فقد جعل الله المصاهرة لحمة كلحمة النسب، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً) (الفرقان:54).

(7) وبالزواج تتاح الفرصة الملائمة التي تكتمل بها شخصية الرجل بتحمله المسئولية زوجًا وأبًا، وتكتمل شخصية المرأة بتحمل مسئوليتها زوجة وأمًا.
إن كثيراً من الرجال يفرون من الزواج، لأنهم – كما قلنا – يريدون أن يعيشوا عمرهم أطفالاً كبارًا، دون رباط يربطهم، أو بيت يضمهم، أو تبعة تلقى على كواهلهم. ومثل هؤلاء لا يصلحون للحياة، ولا تصلح بهم الحياة، أما الزواج فإنه رباط وميثاق غليظ، ومسئولية مشتركة بين الرجل والمرأة من أول يوم، قال تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة:228)، (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ) (النساء:34).
وقال الرسول – صلى الله عليه وسلم – (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته: فالرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها) (متفق عليه عن ابن عمر)، (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) (رواه أحمد وأبو داود والحاكم، والبيهقي عن ابن عمرو،)، (إن الله سائل كل راع عما استرعاه: حفظ أم ضيع) (رواه النسائي وابن حبان عن أنس، وحسنه في الحديث السابق ) (إن لزوجك عليك حقًا) (متفق عليه عن ابن عمرو).

(8) وبالزواج يتفرغ الرجل لإتقان أعماله في خارج البيت، مطمئناً إلى أن في بيته من يدبر أمره، ويحفظ ماله، ويرعى أولاده. وفي هذا ما يعينه على إحسان العمل وزيادة الإنتاج، بخلاف ذلك القلق المضطرب المشغول، الموزع بين عمله وبيته، وبين شغله في الخارج وهم مطعمه ومشربه وملبسه في الداخل.
وقديمًا قال الشاعر:
إذا لم تكن في منزل المرء حرة تدبره، ضاعت مصالح داره !