هناك اعتبارات ترجح أفضلية الفطر للمسافر، منها:
1 – أن يكون في الصوم مشقة شديدة، وذلك مثل الذي يسافر عن طريق البر في الصيف ويتعرض للفح الهجير، وكذلك المسافر الذي يركب الطائرة مسافرًا من الشرق إلى الغرب، فيطول عليه اليوم كثيرًا جدًا لاختلاف التوقيت وطول اليوم هناك.
فالصوم في هذه الحالة يكره، وربما حرم إذا زادت المشقة إلى حد يضر بالصائم.
وفي هذا جاء الحديث الصحيح الذي رواه جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله ﷺ في سفر، فرأى زحامًا، ورجلاً قد ظلل عليه، فقال: ” ما هذا ؟ فقالوا: صائم! فقال: ” ليس من البر الصوم في السفر” (متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان -681).
ولفظ الحديث إذا أخذ على عمومه يفيد نفي البر عن الصوم في أي سفر، وهو يعني أن فيه إثمًا، ولكن سبب الحديث وسياقه، وجملة الأحاديث الأخرى في الموضوع تدل على أن المراد هو هذا النوع من السفر الذي يشق فيه الصيام مشقة بالغة فليس من البر الصوم في مثله.
2 – أن يكون المسافر في جماعة تحتاج إلى خدمات ومساعدات بدنية واجتماعية، يعوق الصوم كليًا أو جزئيًا عن القيام بها، فيستأثر بها المفطرون، ويحرم من مثوبتها الصائمون.
فالأولى هنا الفطر للمسافر ليشارك إخوانه في الخدمة، ولا يكون عبئًا أو عالة عليهم.
وروى الشيخان واللفظ لمسلم عن أنس قال: كنا مع النبي ﷺ، فمنا الصائم، ومنا المفطر، فنزلنا منزلاً في يوم حار، أكثرنا ظلاً صاحب الكساء (يعني الذي يستظل بكسائه) ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصُوَّم، وقام المفطرون، فضربوا الأبنية (أي نصبوا الخيام) وسقوا الركاب.
وفي رواية: وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئًا، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب، وامتهنوا وعالجوا، فقال النبي ﷺ: ” ذهب المفطرون اليوم بالأجر” (متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان -683).
وإنما ذهبوا بالأجر وحدهم، لأنهم هم الذين قاموا بخدمة إخوانهم لنشاطهم وقوتهم، فبعثوا الركاب، أي إبل الركوب التي حملتهم، فأرسلوها إلى الماء للسقي ونحوه، ومعنى (امتهنوا وعالجوا): أي استخدموا أنفسهم في المهنة والخدمة من التنظيف والطهي ومعالجة ما يحتاجون إليه من الزاد والشراب، ويحتاج إليه دوابهم من العلف والماء.
3 – أن يكون في الإفطار تعليم للسنة، وتعريف بالرخصة، كأن ينتشر بين بعض الناس: أن الفطر في السفر لا يجوز، أو لا يليق بأهل الدين، وينكرون على من أفطر في السفر، فيكون الإفطار حينئذ أفضل، وخصوصًا ممن يقتدى به ويؤخذ عنه من أهل العلم والصلاح. بل يتعين هنا الإفطار، قال ابن كثير:.
(إن رغب عن السنة، ورأى أن الفطر مكروه إليه، فهذا يتعين عليه الإفطار، ويحرم عليه الصيام، والحالة هذه، كما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر وجابر وغيرهما: ” من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة) (تفسير ابن كثير -1 / 217).ا.هـ.
وأيضًا لحديث: ” من رغب عن سنتي فليس مني” (رواه البخاري عن أنس).
ذلك أن من الواجب أن تظل مراتب الأعمال وأحكامها الشرعية محفوظة بأوضاعها ودرجاتها، كما جاء بها الشرع، فيظل الفرض فرضًا، والمندوب مندوبًا والعزيمة عزيمة، والرخصة رخصة.
ولا يجوز أن يعتقد الناس المندوب فرضًا أو العكس، كما لا يجوز أن يعتبروا الرخصة ممنوعة، أو واجبة، وإذا حدث شيء منها، فعلى أهل العلم أن يعالجوه بالعلم والعمل، والمراد بالعلم: البيان والبلاغ بالقول مشافهة أو كتابة، وبالعمل: أن يدع العالم المقتدي به النافلة في بعض الأحيان، حتى لا تعتقد فريضة وأن يحرص على الأخذ بالرخصة حتى لا يهملها الناس فتموت.
4 –أن يكون في رفقة أخذوا بالرخصة جميعًا، وأفطروا، ويسوءهم أن ينفرد بالصيام دونهم، فلا يحسن به أن يصوم وحده، لما في ذلك من الشذوذ عن الجماعة من ناحية، ولما في ذلك من خشية دخول الرياء على نفس الصائم، أو اتهامه به من ناحية أخرى.
ويتأكد ذلك إذا كانوا مشتركين في النفقة، ومن عادتهم أن يتناولوا وجباتهم مجتمعين، ويشق عليهم انفراد بعضهم بالأكل فطورًا وسحورًا.
وفي الحديث: ” يد الله مع الجماعة”.
5 –أن يكون الأمير قد أمر بالإفطار، رفقًا بهم، ورعاية لحالهم، فيستحب أن يطاع في ذلك، لتظهر الجماعة في صورة أسرة واحدة، موحدة المظهر والمخبر.
فإذا شدد في ضرورة الإفطار، وألزم به، وجبت طاعته في ذلك، وحرمت مخالفته، واعتبر ذلك معصية.
وفي ذلك جاء حديث جابر بن عبد الله: أن رسول الله ﷺ خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء، فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب… فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام! فقال: ” أولئك العصاة، أولئك العصاة”.
وفي رواية: فقيل له: إن بعض الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء (رواه مسلم في الصيام -2 / 785)… الخ.
ويبدو من الروايات أنه أمرهم أولاً بالإفطار، فلم يسارعوا إليه أخذا بالعزيمة فدعا بالقدح وشرب، ليكون لهم أسوة، فاجتمع الفعل والقول معًا، فلهذا سمي من تخلف عن الإفطار بعد ذلك: (العصاة).
6 –أن يكون المسافر في حالة جهاد ومواجهة ساخنة مع العدو، وقد حمي الوطيس والتهبت المعركة، والفطر أقوى للمجاهدين، وأعون لهم، على ملاقاة العدو، ومصابرته، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا، بل قد يتعين الفطر هنا إذا كان الصوم يضعف المجاهدين، أو يقلل من قدرتهم
فإذا أمر القائد بالإفطار كان الفطر عزيمة، وكان الصيام مظنة الإثم.
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: سافرنا مع رسول الله ﷺ إلى مكة ونحن صيام قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله ﷺ: “إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم”. وكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر. ثم نزلنا منزلاً آخر، فقال: ” إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فأفطروا ” وكانت عزمة، فأفطرنا، ثم رأيتنا نصوم مع رسول الله ﷺ بعد ذلك في السفر (صحيح مسلم في الصوم -789/2، الحديث -1120).