السنة التقريرية هي النوع الثالث من أنواع السنن التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه السنة ليست قليلة ولا نادرة بل الكثير من الأمور التشريعية أخذت من طريق السنة التقريرية.
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي -حفظه الله-:
السنة كما عرفها العلماء، وبخاصة علماء الأصول: هي ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، وأضاف إليها علماء الحديث: أو وصف أو سيرة. ليدخل فيها الصفات الخلفية والخلقية، وأحداث السيرة من الميلاد إلى الوفاة، وان لم تشتمل على سنة تتبع.
والسنة القولية معروفة، وأمثلتها كثيرة، وعليها مدار كتب الحديث، أمثال:”إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى””أن الحلال بين وأن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات””من أحدث في امرنا ما ليس منه فهو رد” الخ …
والسنة الفعلية أو العملية: تشمل فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات، كما قال:”صلوا كما رأيتموني أصلي” وقال في حجة الوداع:”خذ عني مناسككم”ومثل إنه كان يقبل نساءه وهو صائم، وكذلك في العبادات والمعاملات.
والسنة التقريرية: هي ما فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فأقره، أو علم به فسكت عليه، لأنه لا يسكت على باطل، ولا يقر إلا حقا. ولذا قال جابر:”كنا نعزل والقرآن ينزل”وفي رواية:فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينهما”.
ومثال أكل الضب على مائدة النبي عليه الصلاة والسلام، اجتمعت فيه السنة التقريرية والسنة القولية، فقد ورد أنه أكل على مائدته وامتنع هو من أكله، فسئل: أحرام هو يا رسول الله؟ قال:” لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجد نفسي” فالتمثيل به للسنة التقريرية ليس مسلما.

وأما التمثيل بالمضاربة فهو صحيح، وفي موضوعه. وقد ذكر بعض الكاتبين أن المضاربة لم تثبت بقرآن ولا سنة، وغفل هذا الكاتب بأنها تثبت بالسنة التقريرية، وهي النوع الثالث من أنواع السنن.
ولابن القيم كلام جيد ذكره في ( إعلام الموقعين )عن السنة التقريرية ضرب فيه أمثلة وفيرة لها، على نهج ابن القيم في البيان والإسهاب، يحسن بنا أن نذكره هنا على طوله، ليستبين القارئ أهمية هذه السنة وكثرتها في التشريع، وأنها ليست قليلة ولا نادرة، كما توهم.
من ذلك إقراره لهم على تلقيح النخل، وعلى تجاراتهم التي كانوا يتجرونها، وهي على ثلاثة أنواع: تجارة الضرب في الأرض، وتجارة الإدارة، وتجارة السلم، فلم ينكر عليهم منها تجارة واحدة، وإنما حرم عليهم فيها الربا الصريح ووسائله المفضية إليه، أو التوسل بتلك المتاجر إلى الحرام كبيع السلاح لمن يقاتل به المسلم، وبيع العصير لمن يعصره خمرا، وبيع الحرير لمن يلبسه من الرجال، ونحو ذلك مما هو معاونة على الإثم والعدوان.
وكإقرارهم على صنائعهم المختلفة من تجارة وخياطة وصياغة وفلاحة، وإنما حرم عليهم فيها الغش والتوسل بها إلى المحرمات، وكإقرارهم على إنشاد الأشعار المباحة وذكر أيام الجاهلية والمسابقة على الأقدام، وكإقرارهم علي المهادنة في السفر، وكإقرارهم على الخيلاء في الحرب ولبس الحرير فيه وإعلام الشجاع منهم بعينه بعلامة من ريشة أو غيرها. وكإقرارهم على لبس ما نسجه الكفار من الثياب، وعلى إنفاق ما ضربوه من الدراهم، وربما كان عليها صور ملوكهم، ولم يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه مدة حياتهم دينارًا ولا درهما، وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار. وكإقراره لهم بحضرته على المزاح المباح، وعلى الشبع في الأكل، وعلى النوم في المسجد، وعلى شركة الأبدان، وهذا كثير من أنواع السنن احتج به الصحابة وأئمة الإسلام كلهم.
وقد احتج به جابر في تقرير الرب في زمن الوحي كقوله:”كنا نعزل والقرآن ينـزل، فلو كان شيء ينهى عنه لنهى عنه القرآن”وهذا من كمال فقه الصحابة وعلمهم، واستيلائهم على معرفة طرق الأحكام ومداركها، وهو يدل على أمرين:
أحدهما: أن أصل الأفعال الإباحية، ولا يحرم منها إلا ما حرمه الله على لسان رسوله.
الثاني: أن علم الرب تعالى بما يفعلون في زمن شرع الشرائع، ونزول الوحي، وإقراره لهم عليه على عفوه عنه، والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أنه في الوجه الأول يكون معفوا عنه استصحابا، وفي الثاني يكون العفو عنه تقريرا لحكم الاستصحاب.
ومن هذا النوع تقريره لهم على أكل الزروع التي تداس بالبقر، من غير أمر لهم بغسلها، وقد علم صلى الله عيه وسلم أنها لا بد أن تبول وقت الدياس.
ومن ذلك تقريره لهم على الوقود في بيوتهم، وعلى أطعمتهم بأرواث الإبل وأخثاء البقر وأبعار الغنم، وقد علم أن دخانها ورمادها يصيب ثيابهم وأوانيهم، ولم يأمرهم باجتناب ذلك، وهو دليل على أحد أمرين ولا بد: طهارة ذلك، أو أن دخان النجاسة ورمادها ليس بنجس.
ومن ذلك تقريرهم على سجود أحدهم على ثوبه إذا اشتد الحر، ولا يقال في ذلك إنه ربما لم يعلمه؛لأن الله قد علمه وأقرهم عليه ولم يأمر رسوله بإنكاره عليهم، فتأمل هذا الموضع.ومن ذلك تقريرهم على الأنكحة التي عقدوها في حال الشرك ولم يتعرض لكيفية وقوعها، وإنما أنكر منها ما لا مساغ له في الإسلام حين الدخول فيه.
ومن ذلك تقريرهم على ما بأيديهم من الأموال التي اكتسبوها قبل الإسلام بربًا أو غيره، ولم يأمر بردها بل جعل لهم بالتوبة ما سلف من ذلك؛ومنه تقرير الحبشة باللعب في المسجد بالحراب.
وتقريره عائشة على النظر إليهم، وهو كتقريره النساء على الخروج والمشي في الطرقات وحضور المساجد وسماع الخطب التي كان ينادى بالاجتماع لها.
وتقريره الرجال على استخدامهن في الطحن والغسل والطبخ والعجن وعلف الفرس والقيام بمصالح البيت، ولم يقل للرجال قط:لا يحل لكم ذلك إلا بمعاوضتهن أو استرضائهن حتى يتركن الأجرة.
وتقريره لهم على الإنفاق عليهم بالمعروف من غير تقدير فرض ولا حب ولا خبز، ولم يقل لهم:لا تبرأ ذممكم من الإنفاق الواجب إلا بمعاوضة الزوجات من ذلك على الحب الواجب لهن مع فساد المعاوضة من وجوه عديدة أو بإسقاط الزوجات حقهن من الجب، بل أقرهم على ما كانوا يعتادون نفقته قبل الإسلام وبعده، وقرر وجوبه بالمعروف، وجعله نظير نفقة الرقيق في ذلك.
ومنه تقريرهم على التطوع بين أذان المغرب والصلاة وهو يراهم ولا ينهاهم.
ومنه تقريرهم على بقاء الوضوء وقد خفقت رؤوسهم من النوم في انتظار الصلاة ولم يأمرهم بإعادته، وتطرق احتمال كونه لم يعلم ذلك مردود بعلم الله به، وبأن القوم اجل وأعرف بالله ورسوله أن لا يخبروه بذلك، وبأن خفاء مثل ذلك على رسول الله صلى الله عيه وسلم، وهو يراهم ويشاهدهم خارجًا إلى الصلاة ممتنع.
ومنه تقريرهم على جلوسهم في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤا.
ومنه تقريرهم على مبايعة عميانهم على مبايعتهم وشرائهم بأنفسهم من غير نهى لهم عن ذلك يوما ما، وهو يعلم أن حاجة الأعمى إلى ذلك كحاجة البصير.
ومنه تقريرهم على قبول الهدية التي يخبرهم بها الصبي والعبد والأمة، وتقريرهم على الدخول بالمرأة التي يخبرهم بها النساء أنها امرأته، بل الاكتفاء بمجرد الإهداء من غير إخبار.
ومنه تقريرهم على قول الشعر وإن تغزل أحدهم فيه بمحبوبته، وإن قال فيه ما لو أقربه في غيره لأخذ به كتغزل كعب بن زهير بسعاد، وتغزل حسان في شعره وقوله فيه:
كأن خبيئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء
ثم ذكر وصف الشراب، إلى أن قال:
ونشربها فتتركنا ملوكا وأسدا لا ينهنهنا اللقاء
فأقرهم على قول ذلك وسماعه؛لعلمه ببر قلوبهم ونزاهتهم وبعدهم عن كل دنس وعيب، وأن هذا إذا وقع مقدمة بين يدي ما يحبه الله ورسوله من مدح الإسلام وأهله وذم الشرك وأهله والتحريض على الجهاد والكرم والشجاعة فمفسدته مغمورة جدا في جنب هذه المصلحة، مع ما فيه من مصلحة هز النفوس واستمالة إصغائها وإقبالها على المقصود بعده، وعلى هذا جرت عادة الشعراء بالتغزل بين يدي الأغراض التي يريدونها بالقصيد.
ومنه تقريرهم على رفع الصوت بالذكر بعد السلام، بحيث كان من هو خارج المسجد يعرف انقضاء الصلاة بذلك، ولا ينكره عليهم.