النبي عليه الصلاة والسلام كان يصوم هذا اليوم قبل الهجرة، بل كانت العرب في الجاهلية تصومه وتعظمه، وتكسو فيه الكعبة، ولما انتقل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة ووجد اليهود يصومونه صامه لأنا أولى بموسى منهم، وتأليفا لقلوب اليهود، أما التوسعة على الأهل والاكتحال فلم يصح فيهما شيء .

يوم عاشوراء :

يقول فضيلة الشيخ عطية صقر، رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر- رحمه الله-:

يومُ عاشوراءَ وهو اليوم العاشر من شهر الله المُحرَّم أول شهور التّقويم الهجري ـ دخل التاريخ من أوسَع أبوابه منذ بدء الخَليقة كما تحكي الروايات التي لا يصمُد أكثرُها أمام النقد العلميّ عند رِجال الحديث.

ويُهِمُّنا من هذه الأبواب بابان كان لكلٍّ منهما أثرُه في تحوُّل مجرى التاريخ الديني والتشريعي في اليهوديّة والإسلام، أحدهما يوم أن نجَّى الله موسى ـ عليه السلام ـ وجماعتَه الإسرائيليينَ، وأغرقَ فرعونَ وقومَه الظّالمين، وكان يومًا فاصلًا بين عهدينِ في تاريخ اليهود، عَهْد ٍذاقُوا فيه العذاب ألوانًا حين كانوا تحت حكمِ فرعونَ، كما يُذَكِّرهم اللهُ به فيقوله: (وإذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ العَذابِ يُذَبِّحونَ أَبْناءَكُمْ ويَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِن ْرَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وإذْ فَرَقْنَا بِكُمْ البَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُم ْوأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (سورة البقرة : 49 ،50 )،وعَهْدِ التّحرُّر والاتجاه إلى تأسيس مجتمَع مستقلٍّ ما لبِث أن تقلّبت به الأحداث ما بين صعود وهبوط واجتماع وتفرُّق، كما قضى بذلك ربُّ العِزّة في كتابه وسجَّله القرآن الكريم في أوائل سورة الإسراء (وقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتابِ لَتُفْسِدُّنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ ولَتَعْلُّنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) الإسراء آية 4 وفي البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قَدِم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة فرأى اليهود يصومون عاشوراءَ فقال لهم “ما هذا الذي تصومُونه” ؟ فقالوا: هذا يومٌ عَظيم، نَجَّى اللهُ فيه موسى وقومَه وأغرقَ فرعونَ وقومَه، فصامَه وأمرَ بصيامِه حتّى جاءَ فرضُ صِيام رمضانَ فبَقِيَ صِيام يوم عاشوراء مَندوبًا.

وإذا كان الخبر الصحيح يَشْرَعُ صومَه شكرًا لله على نَجاة موسى، فإن تحديد هذا اليوم ورَبطه بنجاة آبائهم هو خبرُ اليهود، كما جاء في كُتبهم التي توارَثوها، والثابت في الصحيحين أيضًا عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يصوم عاشوراء قبل هجرتِه من مكّة إلى المدينة اتباعًا لقريش في صيام هذا اليوم في الجاهليّة، ويعلِّل عكرمة صيام قريشٍ له بأنّهم أذنَبوا ذنبًا في الجاهليّة فعَظُم في صدورهم فقيل لهم: صُوموا عاشوراءَ يُكَفَّر ذلك الذّنب، فهل كان ذلك تقليداً لليهود في صيام يوم الكفّارة “يوم كبور” أو بناء على شرع سابق؟ والمعروف أن شِرعة إبراهيم وإسماعيل التي كانت في مكّة هي أسبقُ مِن الشريعة التي جاءت بها تَوراة موسى الذي نجّاه الله من فرعونَ وقومِه.

روى البخاري ومسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان يوم عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصومُه. فلمّا قدِم المدينة صامَه، وأمرَ الناس بصيامِه فلمّا فُرِض رمضانُ قال:  ” مَنْ شَاءَ صامَه ومَنْ شَاءَ تَرَكَه  ” .

 إن الذي يهمُّنا كمسلمين أنّ صوم يوم عاشوراء بَقِيَ مندوبًا كسائر الأيام التي يُنْدَب فيها الصِّيام، ولم يكن يَأْبَهُ له أحدٌ من المسلمين بأكثرَ من أن ّالصِّيام فيه له فضله الذي وَرد فيه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما رواه مسلم “يُكَفِّر السَّنة الماضيةَ” وجرى الأمر على ذلك في عهد الخُلفاء الراشدين، حتى كان يومُ الجمعة العاشِر من المحرّم سنة إحدى وستين من الهجرة، وهو اليوم الذي استُشهِد فيه الحسينُ بن علي ـ رضي الله عنهما ـ في كَرْبِلاء، فدخل يوم عاشوراء التاريخَ مرّة أخرى من باب واسع.

البدع التي وضعت ليوم عاشوراء وبدعة التوسعة على العيال:

وفي ظلِّ هذه العواطف ظهرت بِدع واختُرِعت أقاويل وحكايات، بل وُضعت أحاديثُ على النبيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلم ـتشجِّع الأولين على المُبالغة في الأسَى والحُزن، وتشجِّع الآخرين على المبالغة في الفَرَح والسُّرور، ونكتفي بهذا القدر في بيان استغلال يوم عاشوراء لنعرِف مدى صحّة ما يُقال إن التوسِعة على العِيال في يوم عاشوراء أثرٌ من آثار النزاع بين البيت الأموي والهاشميّ فنقول :

جاء في كتاب شرح الزرقاني على المواهب اللدُنِّيّة للقسطلاني ” ج 8 ص 123″ أنّ الحديث الذي يقول : “مَن وَسّع على عِياله في يوم عاشوراء وسّع الله عليه السَّنةَ كلَّها” رواه الطبراني والبيهقي وأبو الشيخ، وقال البيهقي إن أسانيدَه كلها ضعيفة، ولكن إذا ضُمَّ بعضُها إلى بعض أفادَ قوّةً، قال العراقي في أماليه: لحديث أبي هريرة طُرق صحّحَ بعضُها ابن ناصر الحافظ، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات. وذلك لأن سليمان بن أبي عبد الله الراوي عن أبي هريرة مجهول، لكن جزَم الحافظ في تقريبه بأنه مقبول، وذكره ابن حبان في الثِّقات والحديث حسَنٌ على رأيه.قال العراقي : وله طُرق عن جابر على شرط مسلم أخرجها ابن عبد البَرِّ في “الاستيعاب” وهي أصحُّ طُرقه. رواه ابن عبدالبر والدارقطني بسند جيِّد عن عمر ـ رضي الله عنه ـ موقوفًا عليه.

قد يقال: إذا كان الصوم شَعيرة عاشوراء، وهو يقوم على الزُّهد والتقشُّف فكيف يتَّفق ذلك مع التوسِعة على العِيال والأهل؟ لئِن كانت هناك توسِعة فلتكنْ على الفقراء كالبِرِّ في رمضان، ومهما يكنْ من شيء فإن التوسِعة مندوبة وأفضل دينار يُنفقه الإنسانُ بعد نفسه هو على أهله، وكل ذلك في حدود الوُسع، ورأى بعض المفكِّرين أن “العيال” المذكورين في هذا الحديث هم عيال الله وهم الفُقراء، وهنا تظهر الحكمةُ في التوسِعة مع الصيام. وجاء في الزرقاني أيضًا أن ما يذكَر من فضيلة الاغتسال فيه والخِضاب والادِّهان والاكتحال ونحو ذلك فبِدعة ابتدَعَها قتلةُ الحُسين، كما صرّح به غيرُ واحد.

صيام العاشر من محرم كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم

هذا، والأولى الاقتصارُ على ما جاء في الحديث من أنَّ صيامه يُكَفِّر ذنوب سَنة، كما يُسَنُّ صيام يوم التاسع أيضًا لحديث رواه مسلم عن ابن عباس قال: لمّا صامَ رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ يوم عاشوراءَ وأمر بصِيامه قالوا: يا رسول الله إنّه يومٌ تُعظِّمه اليهود والنّصارى فقال: “إذا كان العامُ المُقْبِلُ ـ إنْ شاء الله ـ صُمْنا اليومَ التاسِع” قال: فلم يأتِ العام المُقبل حتّى تُوفِّيَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وروى أحمد “خالِفوا اليَهودَ صومُوا يومًا قبلَه ويومًا بعدَه”.

مراتب صيام عاشوراء :

وقد ذكر العلماء أنَّ صيام عاشوراءَ على ثلاث مراتِب:

المرتبة الأولى صوم ثلاثة أيام: التاسِع والعاشر والحادي عشر. والمرتبة الثانية صوم التاسع والعاشر، والمرتبة الثالثة صوم العاشر وحدَه.

وموضوع صيام عاشوراء مبسوط في كتاب “زاد المعاد لابن القيم ج 1 ص 164 وما بعدها .

 هذا ، وقد جاء في الترمذي بإسناد حسن أنّه قد يكون هو اليومَ الذي تاب فيه على قوم ويتوب على آخرين، ولكن ليس في الحديث تعيِين لهذا اليوم ولا لهؤلاء الأقوام، وصحّ من حديث أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد قال: سألت عُبيد بن عُمير عن صيام يوم عاشوراء فقال: المُحرّم شهر الله الأصمّ، فيه يوم تِيبَ فيه على آدم، فإن استطعتَ ألا يمُرَّ بك إلا وأنت صائم فافعل (تفسير القرطبي ج 1 ص 324) وهو حديث غير مرفوع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم.

 وجاء في مسند أحمد أنه ربما يكون هو اليوم الذي استوتْ فيه سفينة نوح على الجوديّ ، ولا أعلم درجة هذا الحديث، كما جاء في الكتب حوادث أخرى في يوم عاشوراء ليس لها سند صحيح، منها مولد الخليل إبراهيم ومولد موسى ومولد عيسى، وبَرَدَت فيه النارُ على إبراهيم ، ورَفْع العَذابِ عن قوم يونس، وكشْف الضُّر عن أيوب، وردُّ البصر على يعقوب ، وخُروج يوسف من الجُبِّ، ويوم الزِّينة الذي غَلَب فيه موسى السَّحَرة.

 أما صيام النبيّ يوم عاشوراء في مكّة فكان كصيام قريش لمتابعتهم في الخير كمتابعتهم في الحجّ ولم يأمُر به أصحابَه، وصامَه بعد الهجرة لمَّا وجد اليهود يصومونه قال العلماء: إن صيامَه في المدينة كان بوحْيٍ أو باستدامة صِيامه في مكّة وزاد تأكيده بشكر الله على نجاة موسى. وليس صيامه متابعة لليهود في شريعتِهم، وقال بعضهم: إنه اجتِهاد من النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ لأنّه كان يُحِبُّ موافقةَ أهلِ الكتاب فيما لم يؤمَر فيه بشيء، ولعل هذا من باب تأليف قلوبهم، كالتوجُّه إلى بيت المَقدِس في الصلاة. وكانت هذه الموافقة في أول الإسلام، فلمّا فُتحت مكّة وقَوِيَ الإسلام خالَف أهل الكِتاب، بالأمرَ بمخالَفتِهم في شكل الصيام لا في أصله، ودليل ذلك أنّه في أواخر حياته ـ وكان يصوم عاشوراء استحباباً ويصومُه أصحابه ـ قيل له: إنّه يوم تعظِّمه اليهودُ والنصارى فقال ـ كما رواه مسلم ـ: ” إذا كان العامُ المُقبِلُ، إن شاء الله، صُمْنا اليومَ التاسع” فلم يأتِ العامُ المُقبلُ حتى تُوفِّي.

صيام العاشر من محرم يكفر الذنوب :

وتكفير الذُّنوب بصِيام عاشوراء المُراد بها الذّنوب الصّغائر، وهي ذنوب سنةٍ ماضيةٍ أو آتية إن وقعتْ من الصائم، فإن لم تكنْ صغائِرُ خُفِّف مِن الكَبائر، فإن لم تكن كبائِرُ رُفِعَت الدرجات . أما الكبائر فلا تكفِّرها إلا التوبة النَّصوح، وقيل يكفِّرها الحَجُّ المَبرور، لعموم الحديث المتَّفَق عليه ” مَنْ حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يفسُق رجعَ كيومَ وَلَدَتْه أمُّه ” .

قال النووي: اختُلف في حكم صوم عاشوراء في أولِ الإسلام حين شُرِع قبلَ رمضان، فقال أبو حنيفة كان واجبًا لظواهر الأحاديث، ولأصحاب الشافعي وجهان: وجهٌ كأبي حنيفة، والأشهر أنه لميزلْسُنَّةً حين شُرِع. لكن كان متأكَّد الاستحبابِ، فلمَّا فُرِضَ رمضانُ صار استحبابُه أقلَّ من الأوَّل .

هذا، وقد ثبت في الصحيحين أن ابن مسعود أفطرَ يوم عاشوراءَ، ولما سُئِل قال: كان النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصومُه قبل أن ينزل صوم رمضان، فلما نَزَل رمضانُ تركَه، والتفسير الصحيح لفعل ابن مسعود وقوله أنّ صومَ عاشوراء تَرَكَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجوبَه بعد فرض صيام رمضان، وبقِي مستَحَبًّا كما تدلُّ عليه الروايات الأخرى. أ.هـ