لِيَكُنْ معلومًا أن الأنبياء جميعًا في منزلة واحدة من حيث الإيمان بهم واعتقاد العصمة لهم، فهم صفوة الله من عباده، وإيمان المسلم لا يتحقَّق إلا بالإيمان بهم جميعًا كما قال تعالى ( لا نُفرِّق بيْنَ أحدٍ من رسله ) ( البقرة : 285 )؛ لأنَّهم إخوة في الدعوة إلى الله، وقد قال النبي ـ ﷺ ـ ” الأنبياء إخوة من عَلاَّت، أمَّهاتهم شتَّى ودينُهم واحد ” رواه البخاري ومسلم، والطعن في أحد منْهم طعْن فيهم جميعًا، وإن كان الله قد فضَّل بعضهم على بعض.
وسيدنا يوسف ـ كما هو معروف في قِصَّته التي بَسَطتْها سورة خاصة سُمِّيت باسمه ـ تَربَّي في قصر عزيز مصر، وفُتِنَت به زوجته وجاء في ذلك قوله تعالى ( وراوَدتْه الَّتي هو في بيْتها عن نفسه وغلَّقت الأبواب وقالت هَيْتَ لك قال مَعاذَ الله إنَّه ربِّي أحسنَ مَثْوَايَ إِنَّه لا يُفْلِحُ الظَّالِمُون . ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّه كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشَاءَ إِنَّه مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِين ) ( يوسف: 23، 24 ).
لِهَذا المشْهد من القصَّة بداية ونهاية، فبدايته إغراء وعَرْض بالكلام، ونهايتُه تَشَابُك بالأيْدي وعَرَاك.
عَرَضَت امرأة العزيز نفْسها على يوسفَ بعد تَهْيئة الجوِّ الكامل له، فكان جوابَه الرَّفضُ التامُّ مستعيذًا بالله الذي يُؤمِن به ليَحْميَه من المعْصية، ومُذكِّرًا لها أنَّ الواجِبَ الإنسانيَّ يأبَى أن يُقابل المعروفَ بالجحود، فربُّه أي سيدُه الذي ربَّاه وائْتمَنه على عِرْضِهِ وأسْرارِ بَيْتِه لا يكونُ جزاءُ معروفِه طعنَه في شَرَفِه، وخيانةً في أمانَتِه فذَلك ظُلْم ولا يُفْلِحُ الظالمون.
وهنا أحسَّت امرأةُ العزيز بصدْمة عَنِيفة ضدَّ رغْبَتِها الجَامِحَة، وبطعْنةٍ قويَّة جَرَحَتْ كِبْرياءَها كسيِّدةٍ له، فقرَّرت أن تَنال منْه بالقوَّة ما لمْ تستَطِع نَيْلَه باللِّين والإغراء، فهمَّت به جذْبًا إليها أو انتقامًا منه، وهمَّ بها تخلُّصًا ودِفاعًا، وكاد يَقْضِي عَلَيْها أو يُلْحق بها أذًى ( لولا أنْ رأى بُرْهان ربِّه ) ذلك البرهان الذي ليس في تَعْيينه دليلٌ صحيح، أو رأىٌ تَرْتاح إليه النَّفْس، ولعلَّه خَوْفُه من الله أن يُعَاقِبَه على فَتْكِه بها، أو خوفُه من زوجها أن يَقْتله، فرَأَى الفِرَارَ مِنْ وَجْهها متَّجِهًا إلى الباب، وهى تُلاحِقُه مُمْسكة بقَمِيصِه من خَلْفه، ولم يُنْقذ الموقف إلا وجودُ زوْجها لدَى الباب، فَبَادَرَتْ بِالاتِّهَامِ بَلْ بِإِصْدَار الحُكْم عَلَى يُوسُفَ ( مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيم ) ( يوسف : 25 ) وبدفاعه عن نفْسه وشهادةِ رجل من أهلها بِقَرِينةِ قَدِّ قَمِيصِ يُوسُفَ من الخَلْف بَرَّأَ الزَّوجُ يوسُف وأدَانَها كَما هو مفصَّل في السورة.
إنَّه مَوْقِف بُطُوليٌّ من يوسف حيث صَمدَ أمام كل المُغْرَيات، فهو عَزَبٌ، غريب، في عُنْفُوان شبابِه وكمالِ حُسْنه، أمامَ سيدةٍ في القمَّة جمالاً وثراءً وسُلْطانًا، تقدَّمت هي بالرَّغبة، وأمَّنَتْ له كل ما يَخشاه، فقال ( معاذَ الله )، وتَذكَّر واجِبَ الشُّكْر على المعروف.
فهل يُعقَلُ ـ بعد أن رَفَضَ الفاحشة في هذا الجو المُهَيَّأ ـ أن تَحْدث منه مراودة وهمٌ بما أباه؟ إنَّهما موقِفان في بَدْء المَشْهد وفي نِهايِتِه، كانَ في كلٍّ منْهما البَطَلَ المُبرَّأ السَّاحةِ مِن الفَحْشاء ومن السوء معًا.
وكلُّ ذلك حدث ولم يكُن بعدُ قدْ جَاءتْه الرِّسالة، وهَكذا يَعْصِم الله رسلَه من المعاصي الكبيرة حتَّى قبْل الرِّسالة حين كانوا في فترة إعدادهم لهذا الشرف العظيم.
إنَّ مِنْ خَيْر ما يؤكِّد بَراءة سيدنا يوسف ممَّا يَتَنَافى مع عِصْمة الأنبياء ما قاله الفخر الرازي في تفسيره حيث ذَكر أن الذين لهم تَعلُّق بهذه الحادثة سبْعة، وكلُّهم شَهِدَ ببراءة يوسف.
أولهم: ربُّ العزة سبحانه، وقد قال ( كذلك لنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إنَّه مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصين ) ( يوسف : 24 ).
ثانيهم: إبْليس الذي قرَّر مَعَ الْقَسَمِ ( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُم أَجْمَعِين . إِلَّا عِبَادَكَ منْهُم المُخْلَصِينَ ) ( ص : 82، 83 ).
وثالثهم: يوسُف نفسه القائل ( هي راودَتْنِي عن نَفسي )، والقائل ( معاذَ الله ).
رابعهم: المرأة نفْسها، وهى القائلة ( ولقَد راودْتُه عن نَفْسِه فاستعْصَم ) ( يوسف : 32 ) ( الآن حَصَحَصَ الحَقُّ أنَا راودْتُه عَنْ نَفْسِه وإنَّه لَمِنَ الصَّادِقِين ) ( يوسف : 51 ).
خامسهم: زَوْجُها، وقَدْ قَالَ لَهَا ( إنَّكِ كُنْتِ من الخَاطِئين ) ( يوسف : 29 ).
سادسهم: ما شَهِدَ بِهِ الشاهد من أهلها ( إنْ كَانَ قَمِيصُه قُدَّ من قُبُلٍ فصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكاذبين . وإنْ كانَ قميصُه قُدَّ من دُبُرٍ فكذَبَتْ وَهُو منَ الصَّادِقين ) ( يوسف : 26، 27 ).
سابعهم: نِسْوة المدينة ( قال ما خَطْبُكُنَّ إذْ راودْتُنَّ يُوسُفَ عنْ نَفْسِه قُلْنَ حَاشَ للهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْه مِن سوء ) ( يوسف : 51 ).
تلك هي الشَّهادات ببراءة يوسف ـ عليه السلام ـ ولم يَصِرْ بَعْدُ نبيًّا، فالواجب أن نَحْمل آياتِ القرآن على الوجْه اللائق بهذه الشخصيات التي اصطفاها الله، فلا يَليق أن يَحمِل أمانته إلا الأمَناء ولا أن يتَشرَّف برسالته إلا الشرفاء.