يمر المسلمون بمحن وفتن كقطع الليل المظلم؛ ونجد أن بعض المسلمين أصبح بأسهم بينهم شديد، وصاروا أذلة على الكافرين أعزة على المسلمين ، وهذا يرجع لأسباب كثيرة، وما يفجعنا بين وقت وآخر ما يقوم به بعض المسلمين من الثأر فيما بينهم دون ترك الأمر في القصاص لولي الأمر كما جاء في كتاب الله وسنة نبيه .

خطورة قتل النفس وأهمية القصاص ودوره في الحد من الجرائم:

يقول فضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر السابق ـ رحمه الله ـ  قتل النفس عمدًا بغير حقٍّ، جريمة مُنكَرة لا يُقِرُّها شرع، ولا يتقبّلها وضع، ولا يَستسيغها مجتمَع؛ لذلك عُنِيَت الشريعة الإسلامية بالمُحافظة على دماء الناس عنايةً تامّةً، فنَهَتْ عنها، وشدَّدت في التنفير منها والنَّكِير عليها وبَيَّنَتْ أحكامَها الدُّنيويّة والأخروية؛ تحذيرًا للناسِ من ارتكابِها؛ صيانةً للأرواح، وقطعًا لعوامل الشَّرِّ، وعملًا على استقرارِ الأمن في المجتمع بكلِّ ممكِن من الوسائل، وهي من أكبر الكَبائر وأعظم الجَرائم.

تحذير القرآن من خطورة قتل النفس:

-يقول الله ـ تعالى ـ: (ولاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلونَ) (من الآية رقم 151 من سورة الأنعام).
-ويقول ـ سبحانه: (ولاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ومَنْ قُتِلَ مَظْلومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصورًا) (سورة الإسراء الآية رقم 33).

-ويقول ـ عَزَّ من قائل ـ: (ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (سورة النساء الآية رقم 93).
-ويقول ـ سبحانه وتعالى ـ: (والذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ ولاَ يَقْتُلونَ النَّفْسَ التِي حَرَّم اللهُ إِلاّ بالحَقِّ ولاَ يَزْنُونَ ومَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) (الآية رقم 68 من سورة الفرقان).
-ويقول ـ جلَّ شأنُه ـ: (ولاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) (الآية رقم 31 من سورة الإسراء).
-ويقول ـ عزَّ من قائل ـ: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (الآية رقم 32 من سورة المائدة).

تحذير السنة من خطورة قتل النفس:

-في الحديث: روى ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو، قال: رأيتُ رسول الله ـ ـ يطوف بالكعبة ويقول: “ما أطيبَكِ وما أطْيَبَ ريحَكِ، ما أعظمَكِ، وما أعظم حُرمتَكِ، والذي نفس محمد بيده لَحُرْمة المؤمن عند الله أعظم من حُرمتِك: ماله ودمه” (اللفظ لابن ماجة ـ الترغيب والترهيب للمنذري جـ 3 ص294).

-وعن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ ـ قال: “لا تُقْتَل نفس ظُلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفل من دمِها؛ لأنَّه كان أول مَنْ سَنَّ القتل” (روى الحديث البخاري ومسلم والنسائي والترمذي ـ التاج الجامع للأصول جـ 3 ص 3).

-وعنه عن النبي ـ ـ قال: “أوَّل ما يُقْضَى بين الناس يومَ القيامة في الدماء” (روى الحديث البخاري ومسلم والنسائي والترمذي ـ التاج الجامع للأصول جـ 3 ص 3)..

-وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ ـ قال: “اجْتنِبوا السَّبْع الموبِقات قالوا: يا رسول الله وما هُنَّ؟ قال: الشِّرك بالله والسِّحْر وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق وأكل الرِّبا وأكل مال اليتيم والتولِّي يوم الزَّحْف وقَذْف المُحْصَنات الغَافِلاتِ” (رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي ـ التاج الجامع للأصول جـ 3 صـ5).

-ورُوِيَ عن رسول الله ـ ـ أنّه قال: “لا يَحِلُّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنِّي رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثَّيِّب الزاني، والمارِق من الدين التارك للجماعة” (متفق عليه ـ اللؤلؤ والمرجان فيما اتَّفق عليه الشيخان ـ باب ما يُباح به دم المسلم الحديث رقم 1091 ـ ط المطبعة العصرية بالكويت 1398هـ ـ 1977م).

-وقال ـ : “أُمِرْتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة، فإذا فعَلوا ذلك عصَموا مِنِّي دماءَهم وأموالَهم إلا بحق الإسلام وحِسابُهم على الله” (متفق عليه ـ المرجع السابق ـ باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله ـ حديث رقم 15 ص 6).

-وقال ـ ـ: “.. ومَن قتل نفسَه بشيء في الدنيا عُذِّب به يوم القيامة..” (من حديث متفق عليه ـ المرجع السابق ـ باب تحريم قتل الإنسان نفسه ـ حديث رقم 70 صـ 21).

-وقال ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ: “مَن أعانَ على قتل مؤمِن بشَطر كلمة لَقِيَ الله مكتوبًا بين عَينيه آيِس من رَحمة الله” (رواه ابن ماجة والأصبهاني من حديث أبي هريرة، ورواه البيهقي من حديث ابن عمر، غير أنه قال: “مَن أعان على دم امرئ مسلم..الحديث” الترغيب والترهيب للمنذري جـ 3 ص 294، 295).

-وقال ـ ـ: “قتل المؤمِن أعظم عند الله من زوال الدنيا” (رواه النسائي والبيهقي ـ المرجع السابق ص 294).

-وقال ـ ـ: “… فإنَّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحُرمة يومكم هذا في بلدِكم هذا في شَهرِكم هذا..” (من حديث متفق عليه ـ اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان ـ حديث رقم 1094 صـ 418، 419).

حكمة مشروعية القصاص:

وقد شَرَع الله القِصاص من القاتل عُقوبة دنيوية له حقنًا للدماء، وكَفًّا عن العدوان على الأرواح، وحياة للناس، ورفعًا للأحقاد من النفوس، وقد جعل الله لأولياء الدم سلطانًا على القاتل الذي يَثبُت عليه القتل، ومع ذلك حَبَّب إلى نفوسهم العفوَ عنه، وذكَّرهم بعاطفة مَنبَع التراحم والتسامُح وحذَّرهم من نقْض العفو؛ نفاذًا لقول الله ـ تعالى: (يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالحُرِّ والعَبْدُ بالْعَبْدِ والأُنْثَى بالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالمَعْروفِ وأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ ورَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ. ولَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الآيتان رقم 178، 179 من سورة البقرة).

وقال سبحانه: (وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ والعَيْنَ بِالعَيْنِ والأَنْفَ بِالأَنْفِ والأُذُنَ بِالأُذُنِ والسِّنَّ بِالسِّنِّ والجُروحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمونَ) (الآية رقم 45 من سورة المائدة).
ورُوِيَ عن النبي ـ ـ أنه قال: “مَن قتَل مؤمنًا فاعْتَبَطَ بقتله لم يقبَل الله منه صرفًا ولا عَدْلاً” (رواه أبو داود ـ الترغيب والترهيب للمنذري جـ 3 ص 297)، وعن أبي هريرة أن النبي ـ ـ قال: “مَنْ قُتِل له قتيل فهو بخير النظرين: إمَّا أن يفتدي، وإما أن يقتل” (رواه الجماعة ـ نيل الأوطار للشوكاني جـ 7 ص 6، 7)، ولفظ الترمذي: “إما أن يعفوَ، وإما أن يقتل”، وكتب رسول الله ـ ـ إلى أهل اليمن كتابًا، وكان فيه: “أنَّ من اعْتَبَط مؤمنًا قتلًا عن بَيِّنة فإنَّه قَوَدٌ إلا أن يَرضَى أولياء المقتول..” (من حديث النسائي ـ المرجع السابق صـ 57، 58)، وقال ـ ـ: “العمد قَوَدٌ، والخَطأ دية” (رواه الطبراني في الكبير ـ جامع الأحاديث للسيوطي جـ 4 ص 588)، وروى البيهقي وغيره عن أنس ـ رضي الله عنه ـ :”أن النبي ـ ـ كان ما رُفِع إليه قِصاص قطُّ إلا أمر فيه بالعفوِ” (كتاب الفقه على المذاهب الأربعة جـ 5 ص 259).

إقامة الحدود والقصاص من مهام الحاكم:

ولا خلاف بين الأئمة في أن القِصاص في القتل لا يُقيمه إلا أولو الأمر الذين فُرِضَ عليهم النُّهوض بالقِصاص وإقامة الحدود، وغير ذلك فقد جاء في كتاب نصب الراية (جـ 3 ص 326 ط أولى مطبعة دار المأمون شبرا 1357هـ ـ 1938م) لأحاديث الهداية الزيلعي الحنفي ـ الحديث السادس عشر ـ قال ـ عليه السلام: “أربع إلى الوُلاة، وذكر منه الحدود، قلت: غريب، روى ابن أبي شيبة في “مصنَّفه” حدثنا عبده عن عاصم عن الحسن قال: أربعة إلى السلطان: الصلاة والزكاة والحدود والقصاص. أ.هـ.

حدثنا ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن جبلة بن عطية عن عبد الله بن مُحَيرِيز قال: الجمعة والحدود والزكاة والفيء إلى السلطان. أ.هـ.

وممَّا تقدَّم يتضح أن إسناد إقامة الحدود إلى السلطان أو مَن يأذَن له بوجه عامٍّ لا خِلاف عليه، وفقط جرى الخلاف فيمَنْ يُقيم الحدَّ على الرَّقِيق، وليستْ بنا حاجة إليه في هذا العصر، فالعموم في الحديث قائم لا مُناقِض له، ويدخل في هذا القِصاص في العمد حيث لا يتولاّه إلا أولو الأمر.

ذلك؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ خاطَب جميع المؤمنين بالقِصاص (سبق الخطاب في الآية رقم 178 من سورة البقرة).
ولمّا كان لا يتهيّأ للمؤمنين جميعًا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقامَ أنفسهم في إقامة القِصاص وغيره من الحدود (الجامع لأحكام القرآن الكريم عند تفسير الآية 178 من سورة البقرة جـ 2 ص 245 ـ 246 ط 1987م الهيئة العامة للكتاب).

ولذلك يرى الفقهاء: أن السياسة الشرعيَّة لها تأثير عظيم في تنظيم الأحكام وتركيز الحقوق.
وتخريجًا على ذلك فلا يجوز لأحد أن يَقْتَصَّ من أحد حَقَّه دون السلطان الذي أعطاه الله هذه السلطة، وليس للناس أن يقتصَّ بعضُهم من بعض، وإنما يكون ذلك للسلطان، أو مَن نَصَّبه السلطان لذلك؛ ولهذا جعل الله السلطانَ ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض .

والسلطان الذي جُعِلَ لوليِّ الدم ليس هو الاستيفاء الفعليّ، وإنما هو حقُّ الطلب وهو المقرَّر في الشريعة، الثابت بالنصوص.
وقد جاء في تبصرة الحُكّام لابن فرحون المالكي في بيان ما يَفتَقِر لحكم الحاكم وما لا يفتقر ما يأتي:
“أنَّ كل ما يحتاج إلى نظر وتحرير وبذْل جهد في تحرير سببِه ومقدار سببه لا بُدَّ فيه من حكم الحاكم، ثم عَدَّ من جزئيات ذلك الحدود، وقال فيها: “إنَّها تفتقر إلى حكم الحاكم، وإن كانت مقاديرُها معلومةً؛ لأن تفويضها لجميع الناس يؤدِّي إلى الفِتَن والشَّحْناء والقتل وفساد الأنفس والأموال.. ثُمَّ قال: وكذلك ما جرى هذا المَجْرَى كاستيفاء القِصاص” .
هذا:
وقد قرَّر الفقهاء المالكية: أن وليَّ الدم إذا باشَر قتل الجاني بغير تفويض من الإمام أو نائبه فإنّه يؤدَّب؛ لافتياتِه على الإمام في حقِّه، وجاء مِثْل ذلك في كتُب الشافعية، وبهذا يُعرَف أن حكم الحاكم أمرٌ لا بُدَّ منه في استيفاء القَوَد، وأن الاستيفاء حق للحاكم له أن يفوِّضه لوليِّ الجِناية في النفس فقط، وأن يفوِّضه لغيره ـ ممَّن يختار ـ في النفس، وفيما دونها.

وحين يقبل وليُّ الدمِ العفوَ مُختَارًا يكون قد أسهمَ في رَأْبِ الصَّدْع بذلك بين قومِه وعشيرته، ويُصبح قدوة صالحة في موقعه وفي مجتمعه تقتدي به القبائل والعَشائر، وينال الخير الموعود به في قول النبي ـ ـ: “لأنْ يهديَ الله بكَ رجلاً واحدًا خيرٌ لكَ مِن حُمُر النَّعَمِ” .