وضع المال في دفتر التوفير إذا كان هناك فائدة محددة على هذه الأموال فهذا الربا بعينه ، فيحرم وضع الأموال في دفاتر التوفير حينئذ، وينبغي لمن أراد التعامل بهذه الطريقة أن يتعامل مع البنوك الإسلامية التي تعمل بنظام المرابحة ، فهي حلال ، وظاهر البنوك الإسلامية أنها بعيدة عن الربا ، وأما وضع الأموال في البنوك الربوية ـ ولو بدون أخذ الربا ـ فهو إعانة لها على الربا، حيث أنها مؤسسات ربوية رأسا.
فالفقهاء مختلفون في تكييف هذه المعاملة، ولذا تراهم يختلفون في حكمها، والجمهور منهم يذهب إلى أن ذلك من قبيل التمويل فهو في حكم القرض، وكل قرض جرّ نفعًا فهو ربا، وأن هذه من باب الربا المحرم شرعًا، وقليله وكثيره سواء في الحرمة. وحرمة الربا ثبتت بالكتاب في قوله “وحرم الربا”(البقرة:275) وفي الحديث في قوله (لعن الله الربا آكله وموكله) وأجمعت الأمة على حرمته. وذهب آخرون إلى أن ذلك من باب الاستثمار فهو مضاربة وتحديد الربح فيها يُفسدها؛ فهي معاملة حرام وإن لم تكن من باب الربا. وقال قليل من العلماء: إن هذا لا يفسرها في عصرنا هذا.
والورع عند الاختلاف ترك الشبه لقوله ﷺ “اتقوا الشبهات” فالورع ترك تلك المعاملات وأمثالها.
يقول الدكتور يوسف القرضاوي:
قد اعتمد فضيلة المفتي فيما اعتمد على فتوى الإمام الأكبر الشيخ شلتوت في إباحة عائد صندوق التوفير.
والواقع أن الاستدلال بفتوى أحد من العلماء، هو استدلال بغير دليل، لأن كل واحد يُؤخذ من كلامه ويُترك إلا المعصوم – ﷺ – وقد جاءت الآثار بالتحذير من (زلات العلماء) ولأن قول هذا العالم يعارضه قول عالم آخر مثله، وربما قول علماء آخرين . وهنا يقول العلماء عن قوليهما: تعارضا فتساقطا.
إنما الدليل ما كان حجة شرعية مستمدة من محكم الكتاب وصحيح السنة، والقواعد الشرعية المجمع عليها.
ثم ما يدرينا لعل هذا العالم رجع عن رأيه ذاك، فلم يعد تقليده فيه جائزًا، حتى عند من يجيزون التقليد للأحياء أو الأموات.
وهذا ما يرويه الثقات – ومنهم المرحوم العلامة الشيخ محمد أبو زهرة – عن الشيخ شلتوت رحمه الله: أنه ناقشه في فتواه هذه في أواخر حياته، حتى اقتنع بالرجوع عنها، وقال: تحذف من كتاب الفتاوى . فقال له أبو زهرة: بل تبقى ويعلق عليها بأنك رجعت عنها، ولكن يبدو أن الأجل لم يمهله، فلم نر هذا الرجوع أو التراجع مثبتًا في الكتاب أو في غيره . ولكن الشيخ أبا زهرة ثقة ثقة.
وقد استند شيخنا شلتوت في فتواه القديمة إلى اعتبارين :.
الأول: أن هذا العقد مع مصلحة البريد ليس قرضًا، إنما هو إمداد للمصلحة بزيادة رأسمالها ليتسع استثمارها ومعاملاتها…إلخ.
الثاني: أنها معاملة حديثة لا يجرى عليها ما ذكره الفقهاء في شأن أنواع الشركات والمعاملات القديمة، وليس فيها ظلم ولا استغلال لأحد.
وآفة هذا النوع من الفتاوى تكمن في عرض من يعرضها على الفقيه من الفنيين، فقد لا يُصوِّر له الواقعة التصوير الدقيق الصحيح، فيفتي بحسب ما تصوره من عرض العارض عليه وبراعته.
وقد ذكر الثقات أن مصلحة البريد التي تدير صناديق التوفير لا تملك أجهزة للتجارة والاستثمار، وإنما تعطى الحصيلة للبنوك لتأخذ منها فائدة توزعها – أو بعضها – على المشتركين . فانتهى الأمر إلى إقراض البنك بفائدة، ولكن بواسطة البريد.
وليس الأمر إذن كما ذكر شيخنا رحمه الله في فتواه: أن المصلحة تستغل الأموال المودعة لديها في مواد تجارية يندر فيها – إن لم يعدم – الكساد والخسران! وما الذي خصها بذلك دون مؤسسات القطاع العام التي عمت الشكوى منها، لما يجلبه أكثرها من خسارة سنوية تُعد بعشرات الملايين أو أكثر ؟.
ثم إن شيخنا استبعد أن يكون ما يدفع إلى صندوق التوفير قرضًا، بناء على ما هو غالب من أن القرض عقد إرفاق، وهو يكون من القوي للضعيف. وهو نفس ما يقوله المبررون لفوائد البنوك، والشيخ لا يقول به.
وقد رأينا أن بعض الصور في المعاملات يكيفها الفقهاء على أنها قرض، وإن لم تكن من قبيل الإرفاق والتبرع، وأشرنا إلى ذلك في دراستنا السابقة عن فوائد البنوك، ونزيدها الآن إيضاحًا.
يقول ابن قدامة في (المغني) في باب (المضاربة): وإن قال (أي رب المال للمضارب) خذ هذا المال، فاتَّجِر به، وربحه كله لك، كان قرضًا لا قِراضًا، لأن قوله: خذه فاتجر به يصلح لهما (أي للقرض والقراض) وقد قرن به حكم القرض، فانصرف إليه.
قال: وإن قال مع ذلك: ولا ضمان عليك، فهذا قرض شرطه فيه نفي الضمان فلا ينتفي بشرطه، كما لو صرح به فقال :خذ هذا قرضًا ولا ضمان عليك (المغني لابن قدامة جـ 295 ط .الإمام بمصر).
فالعبرة إذن بالمسمى والمضمون لا بالاسم والعنوان . فمادام في الاتفاق ما يدل على حكم القرض وأثره اعتبر قرضًا شرعًا، وإن لم يسمه كذلك.
وقد ذكر الفقهاء صورًا عِدَّة فيها قرض لغير الفقير، ولمصلحة المقرض لا المقترض، كما هو العهد والمألوف.
ففي (الدر المختار) من كتب الحنفية يقول:
(يقرض القاضي مال الوقف والغائب واللقطة واليتيم من مليء (أي موسر) حيث لا وصي . ولا من يقبله مضاربة، ولا مستغلاً يشتريه).
وعلَّق العلامة ابن عابدين في حاشيته عليه بقوله: والدفع بالقرض أنظر (أي أصلح) لليتيم لكونه مضمونًا، والوديعة أمانة، وينبغي أن يتفقد أحوال المستقرضين، حتى لو اختل أحدهم أخذ منه المال (الدر المختار وحاشية ابن عابدين – رد المختار – عليه ج 4742 – 473 ط.استانبول).
فهنا تجد الإقراض للمليء أي للغني، والمقصود منه ضمان مال الوقف واللقطة ومال الغائب واليتيم.
وفي معجم الفقه الحنبلي: لا يجوز إقراض مال اليتيم إذا لم يكن فيه حظ له . ومعنى الحظ أن يكون لليتيم مثلاً مال يريد نقله إلى بلد آخر، فيقرضه لرجل ليقضيه بدله في البلد الآخر، يقصد بذلك حفظه من الغرر في نقله، أو يخاف عليه الهلاك من نهب أو غرق، أو نحوهما، أو يكون مما يتلف بتطاول مدته، أو يكون حديثه خيرًا من قديمه كالحنطة.
فإن لم يكن فيه حظ، وإنما قصد إرفاق المقترض وقضاء حاجته فهذا غير جائز.
قال: وإن أراد الولي السفر لم يكن له المسافرة بمال اليتيم، وإقراضه حينئذ لثقة أمين أولى من إيداعه، لأن الوديعة لا تضمن.(انظر: معجم الفقه الحنبلي ج 10762 مادة – ولاية – 19).
فالقرض هنا لمليء غني، وهو لمصلحة المقرض، وهو اليتيم، ولو أقرضه لمعسر لا يجوز، لما فيه من تعريضه للضياع . وإذا أقرضه لمصلحة المقترض وليس لمصلحة اليتيم فلا يجوز؛ لأنه يدخل في باب التبرعات، وهي لا تجوز من مال اليتيم.
ومما يذكر هنا أن أي واحد من الفقهاء من أي مذهب لم يفكر في أخذ زيادة من المقترض من مال اليتيم، ولو جاز ذلك ما سكتوا عنه، ولا تساهلوا فيه، لأنهم لا يتركون حقًّا ليتيم دون أن ينصوا على وجوب استيفائه. (انظر مقال دكتور رفيق المصري: “أدلة تحريم الربا في قروض الإنتاج والتجارة” في مجلة “البنوك الإسلامية” العدد 41 رجب 1409هـ – أبريل 1985م ص26: 34 وترجمة مقال د.فضل الرحمن حول “الربا التجاري” في مجلة “البحث الإسلامي” العددين 7،8 سنة 1968م)
ومما يدل على أن القرض ليس دائمًا عقد إرفاق ومساعدة، ما أشرنا إليه في دراستنا السابقة في قصة الزبير رضي الله عنه واشتراطه على من يودعون المال عنده أن يجعلوه قرضًا وسلفًا، مع أنه لم يكن في حاجة إليه، ولم يطلبه منهم، بل هم الذين جاءوا إليه طائعين مختارين.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): ما كان يقبض من أحد وديعة إلا إن رضى صاحبها أن يجعلها في ذمته، وكان غرضه بذلك أنه كان يخشى على المال أن يضيع فيظن به التقصير في حفظه، فرأى أن يجعله مضمونًا، فيكون أوثق لصاحب المال وأبقى لمروءته (فتح الباري -ج 2306). وهذا بالطبع يجيز له التصرف في المال، فيطيب له ربحه إن ربح، كما يتحمل خسارته إن خسر، وفقًا لقاعدة: الغنم بالغرم، والخراج بالضمان.
وبهذا كله تسقط الشبهة التي أثارها شيخنا، واتكأ عليها من بعده في أن شهادات الاستثمار، بل ودائع البنوك نفسها ليست قرضًا، مع أن القانون المدني الوضعي يكيف الودائع على أنها قرض، كما هو مقرر ومعروف عند الدارسين.
أما القول بأنها معاملة حديثة من كل الوجوه، وأنها لا تدخل تحت أي عقد من العقود المعروفة لدى الفقهاء، فقد رددنا على ذلك من قبل، ولست أدري والله ما الجديد فيها من صور المعاملات المعروفة عند الأقدمين، غير الشكل أو التسمية أو زيادة الكم، وهذه كلها لا أثر لها في الحكم بالحل أو الحرمة.
والعجب ممن يحرم المعاملة إذا كانت من فرد لفرد، فإذا كانت من شركة أو مجموعة أفراد تصبح حلالاً زلالاً. (انتهى).