كيفية خلق سيدنا عيسى عليه السلام:
وقد بيّن عزّ وجلّ مبدأ خلق عيسى عليه السلام فقال تعالى { والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا } ، ثم بيَّن تعالى أن النفخ وصل إلى الفرج ، فقال عز وجل { ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا } .
ودلَ قوله تعالى { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكيّاً } على أن النافخ هو جبريل ، وهو لا يفعل إلا بأمر الله .
مدة حمل مريم بعيسى عليه السلام:
وفيما يلي كلام لإمامين جليلين من أهل التفسير ، أحدهما ممن مضى – وهو ابن كثير رحمه الله – ، والآخر من المعاصرين – وهو الشنقيطي رحمه الله – في بيان هذا الأمر .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله :
اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر ، …. وقال ابن جريج أخبرني المغيرة بن عتبة بن عبد الله الثقفي سمع ابن عباس وسئل عن حمل مريم قال لم يكن إلا أن حملت فوضعت !!
وهذا غريب وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله تعالى { فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة } ، فالفاء وإن كانت للتعقيب لكن تعقيب كل شيء بحسبه كقوله تعالى { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما } ، فهذه الفاء للتعقيب بحسبها وقد ثبت في الصحيحين – البخاري 3208 ، مسلم 2643 – ” أن بين كل صفتين أربعين يومًا ” ، وقال تعالى { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرّة } .
فالمشهور الظاهر – والله على كل شيء قدير – أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن.
…. ولما استشعرت مريم من قومها إتهامها بالريبة انتبذت منهم { مكانا قصيًا } أي قاصيا منهم بعيدا عنهم لئلا تراهم ولا يروها ، …. وتوارت من الناس واتخذت { من دونهم حجابًا } فلا يراها أحد ولا تراه . ” تفسير ابن كثير ” ( 3 / 122 ) .
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله :
وأقوال العلماء في قدر المدة التي حملت فيها مريم بعيسى قبل الوضع : لم نذكرها ؛ لعدم دليل على شيءٍ منها ، وأظهرها : أنه حمل كعادة حمل النساء ، وإن كان منشؤه خارقاً للعادة . والله تعالى أعلم . ” أضواء البيان ” ( 4 / 264 ) .
ضلال الإستدلال بأن عيسى عليه السلام روح الله:
وأما استدلالهم بإضافتها إليه سبحانه بقوله تعالى { ونفخت فيه من روحي } فينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله سبحانه نوعان :
صفات لا تقوم بأنفسها كالعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر فهذه إضافة صفة إلى الموصوف بها فعلمه وكلامه وإرادته وقدرته وحياته وصفات له غير مخلوقة وكذلك وجهه ويده سبحانه .
والثاني : إضافة أعيان منفصلة عنه كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه ومصنوع إلى صانعه لكنها إضافة تقتضي تخصيصا وتشريفا يتميز به المضاف عن غيره كبيت الله وإن كانت البيوت كلها ملكا له وكذلك ناقة الله والنوق كلها ملكه وخلقه لكن هذه إضافة إلى إلهيته تقتضي محبته لها وتكريمه وتشريفه بخلاف الإضافة العامة إلى ربوبيته حيث تقتضي خلقه وإيجاده فالإضافة العامة تقتضي الإيجاد والخاصة تقتضي الاختيار والله يخلق ما يشاء ويختار مما خلقه كما قال تعالى { وربك يخلق ما يشاء ويختار } وإضافة الروح إليه من هذه الإضافة الخاصة لا من العامة ولا من باب إضافة الصفات فتأمل هذا الموضع فإنه يخلّصك من ضلالات كثيرة وقع فيها من شاء الله من الناس . أ.هـ
“الروح” ( ص 154 ، 155 ) .
فالخلاصة أنّ وصف عيسى عليه السلام بأنّه روح الله هو من باب التشريف والتكريم لعيسى وهذه الإضافة ( وهي إضافة كلمة روح إلى لفظ الجلالة ) ليست إضافة صفة إلى الموصوف كيد الله ووجه الله وإنما هي إضافة المخلوق إلى خالقه كوصف الكعبة بأنها بيت الله وأيضا ناقة الله وهي المعجزة التي آتاها الله نبيه صالحا عليه السلام